الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: أن النبي كان يتكئ في حجري وأنا حائض ثم يقرأ القرآن

          297- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ): بالدال المهملة مصغراً، و لينظر لماذا جمع بين الكنية والاسم مع عدم ذكره كثيراً في غير هذا الموضع مقتصراً على الكنية (أنه سَمِعَ زُهَيْراً): بالتصغير؛ أي: ابن معاوية / بن حُديج: بضم الحاء المهملة أوله فدال مهملة فتحتية فجيم آخره (عَنْ مَنْصُورٍ بْنِ صَفِيَّةَ): اسم أمه اشتهر بها؛ لأنه يروي عنها، وأبوه: عبد الرحمن الحجبي (أَنَّ أُمَّهُ): أي: صفية بنت شيبة (حَدَّثَتْهُ: أَنَّ عَائِشَةَ): ♦ (حَدَّثَتْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلعم كَانَ يَتَّكِئُ): بهمز آخره وتشديد التاء، وهو من باب الافتعال، وأصله: يوتكئ؛ لأن مجرده وكأ فقلبت الواو ياء وأدغمت في تاء الافتعال، وفاعله كسابقه عائد إلى النبي صلعم (فِي حَجْرِي): أي: عليه؛ لأن توكأ يتعدى بعلى، قال تعالى: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه:18].
          وفائدة العدول إلى في: التمكن فيه كتمكن المظروف في ظرف، ويحتمل تضمين (يتكئ): يضع أو يتمكن؛ أي: واضعاً رأسه في حجري لقولها في التوحيد: (ورأسه في حجري)، فتأمل.
          وجملة: (وَأَنَا حَائِضٌ): حال من ياء المتكلم على حد: فاتبع {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل:123]، ويحتمل على بعد أنه من فاعل (يتكئ)، كما جوزه الكرماني، وإن قال العيني: لا وجه له على ما لا يخفى، بل له وجه على حد: جاء زيد والشمس طالعة، فافهم
          (ثُمَّ يَقْرَأُ القُرْآنَ): وللمصنف في التوحيد: (كان يقرأ القرآن ورأسه في حجري وأنا حائض).
          قال في ((الفتح)): ومناسبته _أي: أثر أبي وائل لحديث عائشة_ من جهة أنه نظَّر حمل الحائض العلاقة التي فيها المصحف بحمل المؤمن الذي يحفظ القرآن؛ لأنه حامله في جوفه، وهو موافق لمذهب أبي حنيفة، ومنع الجمهور ذلك، وفرقوا بأن الحمل مخل بالتعظيم، والاتكاء لا يسمى في العرف حملاً. انتهى.
          ثم قال: قوله: (ثم يقرأ القرآن): قال ابن دقيق العيد: في هذا الفعل إشارة إلى أن الحائض لا تقرأ القرآن؛ لأن قراءتها لو كانت جائزة لما توهم امتناع القراءة في حجرها حتى احتيج إلى التنصيص.
          وقال ابن بطال: غرض البخاري أن يستدل على جواز حمل الحائض للمصحف، وقراءتها القرآن؛ لأن المؤمن الحافظ له أكبر أوعيته، وهذا رسول الله أفضل المؤمنين تالياً للقرآن في حجر الحائض، واختلفوا في حمل الحائض، والجنب المصحف بعلاقته؛ فمنهم من جوزه وقال: لما جاز لها حمل الدنانير والدراهم فيها ذكر الله، فكذلك المصحف، واحتج بقول النبي: (المؤمن لا ينجس) وبكتابه صلعم إلى هرقل آية من القرآن، ولو كان حراماً لما كتب إليه بشيء من القرآن، وهو يعلم أنهم يمسونه بأيدهم وهم أنجاس، وقد قامت الأدلة أن ذكر الله مطلق للجنب والحائض، وقراءة القرآن في معنى ذكر الله، ولا حجة لفارق بينهما.
          وقال الجمهور: لا يمس المصحف حائض ولا جنب، ولا يحمله محدث غير طاهر، واحتجوا بقوله: {لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] وبكتاب النبي صلعم إلى عمرو بن حزم: (لا يمس المصحف إلا طاهر). انتهى.
          وأقول: رده الكرماني فقال: ليس غرض البخاري أن يستدل على جواز حمل الحائض للمصحف، بل الغرض: مجرد ما ترجم في الباب عليه، وهو جواز القراءة بقرب موضع النجاسة، وكيف وكون المؤمن في حجر الحائض لا يدل على جواز الحمل؟ ولهذا اتفقوا على جوازه، واختلفوا في جواز الحمل؛ لأنه مخل بالتعظيم، ولا إخلال في الاتكاء على الحائض، ولهذا جاز حمل المصندوق الذي فيه الثياب والأمتعة سواه اتفاقاً، ثم إن مثله لا يسمى مساً، ولا حملاً عرفاً، ولا ممنوع سواها، ثم لا يصح قياس المصحف على الدراهم؛ لأنه لم يثبت فيهما القرآن لقصد الدراسة والقراءة، ولهذا لا يجري عليها أحكام القرآن، ولا يصح أيضاً قياس القراءة على الذكر للفرق الظاهر بينهما من جهات كقدمه، وكونه من صفات الله تعالى.
          ثم لا احتجاج بالغالب بمكتوب هرقل؛ لأنه لم يكتب فيه للقراءة؛ ولأنه كقصيدة فارسية فيها ألفاظ عربية لا يقال أنها عربية، إذ الاعتبار بالغالب ثم جميع هذه الاستدلالات لا تقابل صريح الآية والحديث اللذين ذكرهما الجمهور، ولا يحتمل أن يراد به المطهر من الشرك والجنابة؛ لأنه مطلق، فلا بد أن يحمل على الكامل، سيما وقد ذكر بلفظ المبالغة، فالمقصود المطهر من كل الأنجاس والأحداث. انتهى.
          وأقول: لا يخفى على المتأمل ما في بعضه من المناقشة، كنقله الاتفاق في حل حمله مع الأمتعة مع وجود الخلاف القوي لقول (المنهاج): والأصح:حل حمله في أمتعة.
          ورد العيني عليه: إنما يستقيم في قوله: وقراءتها؛ لأنه ليس في الحديث ما يدل على جواز قراءة الحائض للقرآن، والذي فيه يدل على جواز قراءة القرآن في حجر الحائض، وعلى جواز حمل المصحف لها بعلاقته، / فأورد حديثاً وأثراً، فالحديث: يدل على الأول، والأثر: على الثاني؛ لكنه غير مطابق للترجمة، وكلما ما كان من هذا القبيل فيه تعسف. انتهى.
          وأقول: هو كلام حسن سوى قوله: لكنه غير مطابق للترجمة؛ فإن الذي فيها جواز قراءة الرجل القرآن وهو في حجر امرأته، إلا أن يريد أنه غير مطابق للترجمة على ما فهمها ابن بطال، فيتم حسنه على كل حال.
          وقال ابن الملقن: إن العلماء قد اختلفوا في ذلك، فممن رخص للحائض والجنب في حمل المصحف بعلاقته الحكم، وعطاء، وسعيد بن جبير، وحماد بن أبي سليمان، والحسن، ومجاهد، وطاووس، وأبو وائل، وأبو رزين، وهو قول أهل الظاهر.
          وقال جمهور العلماء: لا يمسه حائض، ولا جنب، ولا يحمله إلا طاهر غير محدث، روي ذلك عن ابن عمر، وهو قول مالك، والأوزاعي، والثوري، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، والشعبي، وأبي ثور، والقاسم بن محمد.
          وأجاز محمد بن سيرين، والشعبي مسه من غير وضوء، ومنع الحكم مسه بباطن الكف خاصة، وفيه مخالفة لما مضى عنه.
          ثم قال: واحتج الجمهور بقوله تعالى: {لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79]، وبحديث عمرو بن حزم مرفوعاً: (لا يمس القرآن إلا طاهر)، وهو حديث جيد، وبحديث عبد الله بن رواحة: (نهى رسول الله صلعم أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب)، قال ابن عبد البر: رويناه من وجوه صحاح، وبحديث علي مرفوعاً: (كان لا يحجبه من القرآن شيء إلا الجنابة)، وصححه الترمذي وغيره، وبحديث عائشة مرفوعاً: (لا يقرأ الجنب والحائض شيئاً من القرآن)، رواه الحاكم في (تاريخ نيسابور). انتهى مفرقاً.
          وقال في ((الفتح)) في باب: تتم الحائض المناسك: واستدل الجمهور على المنع بحديث علي: (كان رسول الله صلعم لا يحجبه عن القرآن شيء ليس الجنابة)، رواه أصحاب السنن، وصححه الترمذي، وابن حبان، وضعف بعضهم لبعض رواته، والحق: أنه من قبيل الحسن يصلح للحجة؛ لكن قيل: في الاستدلال به نظر؛ لأنه فعل مجرد، فلا يدل على تحريم ما عداه. وأجاب الطبري عنه: بأنه محمول على الأكمل جمعاً بين الأدلة، وأما حديث ابن عمر مرفوعاً: (لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً من القرآن): فضعيف من جميع طرقه. انتهى.
          ثم قال: واعترض الأول: بأن المراد بالمطهرين الملائكة، كما قاله قتادة، والربيع بن أنس، وأنس بن مالك، ومجاهد بن جبير، وغيرهم، ونقله السهيلي عن مالك، قال: ويؤكده أنه تعالى لم يقل: المتطهرون؛ لأن المتطهر: من فعل الطهور، والملائكة مطهرون، لكن استبعده بعضهم، لأنهم كلهم مطهرون، ومسه والاطلاع عليه، إنما هو لبعضهم؛ ولأن تخصيص الملائكة خلاف الأصل. انتهى.
          وأقول: وأيضاً: لو اختص بهم لم يجز من غيرهم أو لم يقع والواقع بخلافه.
          ثم قال ابن الملقن: وقال أبو محمد بن حزم: قراءة القرآن والسجود فيه، ومس المصحف، وذكر الله جائز كل ذلك بوضوء، وبلا وضوء، للجنب والحائض، وهو قول ربيعة، وسعيد بن المسيب، وابن جبير، وابن عباس، وداود، ثم قال: وأجاز مالك للحائض القراءة القليلة استحساناً لطول مقامها، وعنه: الإباحة مطلقاً وهو الصحيح عنده، وعلله بخشية النسيان، ومثلها النفساء دون الجنب، وأباحه قوم، وكان ابن عباس لا يرى بالقراءة للجنب بأساً، وقال النخعي: لا بأس أن يقرأ الجنب والحائض الآية ونحوها.
          وسيأتي الأثران في باب: تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف، وأن مذهب البخاري جواز القراءة مطلقاً، وأجازه عكرمة للجنب أن يقرأ، وليس له أن يتم سورة كاملة، وقال الأوزاعي: لا يقرأ إلا آية الركوب وآية النزول، والمتيمم بمس المصحف، خلافاً للأوزاعي.
          وقال بعض الحنفية: لا بأس بتعليم المعلم الصبيان حرفاً حرفاً للحاجة، ولا فرق في الحرمة بين قراءة الآية فما دونها في رواية الكرخي، وفي رواية الطحاوي: يباح لها ما دون الآية، وهو رواية عن أحمد، ونقل ابن حزم عن مالك: أن الجنب يقرأ الآيتين ونحوهما، وأن الحائض تقرأ ما شاءت.
          والحديث أخرجه المؤلف في التوحيد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة في الطهارة.