الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: أن النبي كان عند بعض نسائه فأرسلت له بقصعة فيها طعام

          2481- وبالسَّند قال: (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ) أي: ابنُ مسرِهَدٍ، قالَ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) أي: القطَّانُ (عَنْ حُمَيْدٍ) بالتَّصغيرِ؛ أي: الطَّويلِ (عَنْ أَنَسٍ) ☺ (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ) هي عائشةُ، قالَ الطِّيبيُّ: وإنَّما أُبهِمَت تفخِيماً لشأنِهَا؛ ولأنَّهُ ممَّا لا يخفَى أنَّها هي؛ لأنَّ الهدَايَا إنَّما كانَتْ ترسَلُ إلى بيتِهَا ♦.
          (فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ) هي: صفيَّةُ كما روَاهُ أبُو داودَ والنَّسائيُّ، أو حفصَةُ كما رواهُ الدَّارقُطنيُّ وابنُ ماجَه، أو أمُّ سلمَةَ كما رواهُ الطَّبرانيُّ في ((الأوسط)) وإسنادُهُ أصحُّ من إسنادِ الدَّارقُطنيِّ، وساقَهُ بسندٍ صحيحٍ وهو أصحُّ ما وردَ في ذلك، ويحتمَلُ التَّعدُّدُ، كذا في القسطَلانيِّ.
          وذكرَ في ((الفتح)) و((العمدة)) عنِ ابنِ حزمٍ في ((المحلى)) بسندهِ إلى حُميدٍ الطَّويلِ قالَ: سمعتُ أنَساً قالَ: أهدَتْ زينَبُ بنتُ جحشٍ إلى / النَّبيِّ صلعم وهو في بيتِ عائشَةَ ويومِهَا جَفنَةً من حيْسٍ فقامَتْ عائشَةُ فأخَذَتِ القَصعَةَ فضربَتْ بها فكسَرتْهَا، فقامَ رسُولُ اللهِ صلعم إلى قصعَةٍ لها فدفَعَهَا إلى رسُولِ زينبَ فقالَ: ((هذِهِ مكَانُ صحفَتِهَا)).
          ففيهِ أنَّ الطَّعامَ كانَ حَيساً، وذُكِر أنَّ النَّسائيَّ روى بسندِهِ عن أمِّ سلمَةَ أنَّها أتَتْ بطعَامٍ في صحفَةٍ إلى النَّبيِّ صلعم وأصحابِهِ فجاءَتْ عائشَةُ متَّزرةً بكسَاءٍ ومعَهَا فَهرٌ فغلَّقَتْ به الصَّحفَةَ الحديثُ.
          ورواهُ الطَّبرانيُّ في ((الأوسط)) بسنَدهِ إلى أنسٍ قال: كانُوا عندَ رسُولِ اللهِ في بيتِ عائشَةَ إِذ أتَى بصَحفَةِ خُبزٍ ولَحْمٍ مِن بيتِ أمِّ سلمَةَ قالَ: فوضَعْنَا أيدِينَا وعائشَةُ تصنَعُ طعَاماً عَجلَةً فلمَّا فرُغْنَا جاءَتْ به ورفعَتْ صحفَةَ أمِّ سلمَةَ فكسَرَتهَا، الحديثُ.
          وأخرجَهُ الدَّارقُطنيُّ عن أنَسٍ قالَ: كانَ النَّبيُّ صلعم في بيتِ عائشَةَ معهُ بعضُ أصحَابِهِ ينتظِرُونَ طَعِيماً فسبقتُهَا.
          وفي هذينِ الحديثَينِ إشارةٌ إلى بيَانِ سبَبِ كسرِ عائشَةَ القصعَةَ، ومثلُهُمَا ما رواهُ أبُو داودَ والنَّسائيُّ مِن طريقِ جَسْرة _بفتحِ الجيمِ وسكونِ السِّين المهملةِ_ عن عائشَةَ قالَتْ: ما رأَيتُ صانِعةً طعَاماً مثلَ صفيَّةَ أهدَتْ إلى النَّبيِّ إناءً فيه طعَامٌ فما ملكْتُ نفسِي أن كسَرتُهُ فقلتُ: يا رسُولَ اللهِ ما كفَّارتُهُ؟ قال: ((إنَاءٌ كإنَاءٍ، وطَعَامٌ كطعَامٍ)).
          وأطالَ في ((الفتح)) في بيَانِ روايَاتِ الحدِيثِ من طرُقٍ عديدَةٍ ثمَّ قالَ: ويجُوزُ أنَّ المرادَ بمَن أبهَمَ في حديثِ البابِ هي زينَبُ لمجِيءِ الحدِيثِ مِن مخرجِهِ، وهو حمَيدٌ عن أنَسٍ قالَ: ومَا عِدا ذلكَ فقصَصٌ أُخرَى لا تليقُ عن محقِّقٍ أن يقُولَ قيلَ: المرسَلةُ فلانَةُ، وقيلَ: فُلانَةُ من غيرِ تحرِيرٍ، انتهى ملخَّصاً.
          (مَعَ خَادِمٍ) قال في ((الفتح)): لم أقفْ على اسمِ الخَادمِ، و((معَ)) ظرفٌ لـ((أرسَلْتُ)) كقولِهِ: (بِقَصْعَةٍ) وقولُهُ: (فِيهَا طَعَامٌ) صفةُ ((قصعةٍ)) وبينَ الطَّعَامِ في ((الأوسط)) للطَّبرانيِّ بأنَّه خُبزٌ ولحمٌ، كما مرَّ آنفاً (فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا، فَكَسَرَتِ الْقَصْعَةَ) أي: نصفَينِ، كمَا زادَهُ أحمَدُ، والضَّمائرُ عائدةٌ للضَّاربَةِ المدلُولِ عليهَا بالفِعلِ وهي عائشةُ اتِّفاقاً كما مرَّ.
          قالَ في ((الفتح)): وفي روايَةِ ابنِ عليَّةَ فضربَتْ الَّتي في بيتِهَا يدَ الخَادمِ فسقطَتِ الصَّحفَةُ فانفلقَتْ، والفَلْق _بالسُّكونِ_ الشَّقُّ ودلَّتِ الرِّوايةُ الأُخرَى على أنَّها انشقَّتْ ثمَّ انقطعَتْ.
          (فَضَمَّهَا) أي: فضمَّ النَّبيُّ صلعم القصعَةَ (وَجَعَلَ فِيهَا الطَّعَامَ) وفي روَايةِ ابنِ عليَّةَ: فجمعَ النَّبيُّ صلعم فلقَ الصَّحفةِ ثمَّ جعلَ يجمَعُ فيهَا الطَّعامَ الَّذِي كانَ في الصَّحفةِ ويقولُ: ((غارَتْ أمُّكُم)) قال ولأحمَدَ: فأخَذَ الكسرَتَينِ فضمَّ إحداهُمَا إلى الأُخرَى فجعَلَ فيهَا الطَّعامَ.
          لطيفةٌ: قالَ العينيُّ: رأَيتُ في بعضِ المواضِعِ في أثنَاءِ مُطَالعتِي أنَّ النَّبيَّ صلعم أخَذَ القصعَةَ المكسُورَةَ وكانَتْ قطَعاً فاستوَتْ صحيحَةً في كفِّهِ المبارَكِ كما كانَتْ.
          (وَقَالَ) أي: النَّبيُّ صلعم (كُلُوا) أي: من الطَّعامِ الَّذِي سقَطَ على الأرضِ، ولأبِي داودَ والنَّسائيِّ من طريقِ حُميدٍ نحوهُ زادَ: ((كُلُوا فأكَلُوا)) (وَحَبَسَ) بفتحاتٍ؛ أي: وأبقَى النَّبيُّ صلعم عندَهُ (الرَّسُولَ) أي: الَّذي جاءَ بالطَّعامِ (وَالْقَصْعَةَ) عَطفاً على ((الرَّسُولَ)) المنصُوبُ بـ((حبَسَ)) أي: أمسكَهَا النَّبيُّ عندَهُ.
          (حَتَّى فَرَغُوا) أي: النَّبيُّ وأصحابُهُ من الأكْلِ (فَدَفَعَ) بفتحَاتٍ (الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ) أي: إلى الرَّسولِ الَّذي جاءَ بالطَّعامِ ليُعطيَهَا الَّتي انكسَرتْ صحفَتُهَا (وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ) / أي: في بَيتِ الَّتي كسَرتِ القصعَةَ، وفي الكلامِ حذفٌ بعدَ: ((فرَغُوا)) أي: فأتَى بالقصْعَةِ الصَّحيحَةِ الَّتي للكاسِرَة بدَليلِ روايَةِ ابنِ عليَّةَ: ((حتَّى أتَى بصحفَةٍ من عندِ الَّتي هي في بيتِهَا، فدفعَ الصَّحفَةَ الصَّحيحَةَ إلى الَّتي كسرَتْ صحفتَهَا وأمسَكَ المكسورَةَ في بيتِ التي كسرَتهَا))، زادَ الثَّوريُّ وقالَ: ((إنَاءٌ كإنَاءٍ وطعَامٌ كطعَامٍ)).
          ومطابقَةُ الحديثِ للتَّرجَمةِ في قولِهِ: ((فدَفَعَ القَصْعَةَ... إلخ)).
          قالَ ابنُ بطَّالٍ: احتجَّ بهِ الشَّافعيُّ والكوفيُّونَ وجماعَةٌ في أنَّ منِ استهلَكَ عرُوضاً أو حيوَاناً فعليهِ مثلَ ما استهلَكَ ولا يقضِي بالقيمَةِ إلَّا عندَ عدمِ المثلِ قالُوا: ألَا ترَى أنَّ رسُولَ اللهِ ضمنَ القصعَةَ بقصعَةٍ، وذهَبَ مالِكٌ إلى أنَّ عليهِ قيمَةُ ما ذكَرَ يومَ استهلاكِهِ مُطلَقاً، وعنهُ في روايَةٍ كالأوَّلِ وعنهُ ما صنعَهُ الآدمِيُّ فالمثلُ، وأمَّا الحيوَانُ فالقيمَةُ، وعنهُ ما كانَ مكِيلاً أو موزُوناً فالقيمَةُ وإلَّا فالمثلُ وهو المشهُورُ عندَهُم.
          كذا نقلَهُ في ((الفتح)) عنه، واعترَضَهُ بأنَّ الشَّافِعيَّ إنَّما يحكُمُ في الشَّيءِ بمثلِهِ إذا كانَ متشَابِهَ الأجزَاءِ كالمكِيلِ والموزُونِ، وأمَّا إذا لم يكُنْ كذلِكَ كالقصعَةِ فهيَ من المتقوَّمَاتِ، انتهى.
          ولعلَّ ما نقلَهُ ابنُ بطَّالٍ عن الشَّافعيِّ قولٌ لهُ، ثمَّ ذكَرَ الجوابَ عن هذا الحديثِ فقالَ: والجوَابُ ما حكَاهُ البيهقيُّ بأنَّ القصعَتَينِ كانَتَا للنَّبيِّ صلعم في بيتَي زوجَتَيهِ فعاقَبَ الكاسِرةَ بجَعلِ القصعَةِ المكسُورَةِ في بيتِهَا، وجعلِ الصَّحيحَةِ في بيتِ صاحبتِهَا، ولم يكُنْ هناكَ تضمِينٌ، وعلى تقدِيرِ أنَّ القصعَتَينِ لهُما فيُحتَمَل أن رأى ذلكَ سدَاداً بينهُمَا فرضِيتَا بذلكَ، ويُحتمَلُ أنَّه كان ذلكَ في الزَّمانِ الَّذي كانتِ العقُوبةُ فيه بالمَالِ، قالَ: لكِن يبعدُ هذا قولُهُ: ((إنَاءٌ كإنَاءٍ)) ويعكرُ على التَّوجيهِ الأوَّلِ قولُهُ في روايَةِ ابنِ أبي حاتمٍ: ((مَن كسَرَ شَيئاً فهو لهُ وعليهِ مثلُهُ))، فهو حُكمٌ عَامٌّ لا واقعَةُ عينٍ لا عمُومَ فيها قالَ: لكن محَلُّ ذلك إذا أفسدَ المكسُورَ، فإن كانَ الكسرُ خفِيفاً يمكنُ إصلاحُهُ فعلَى الجَانِي أرشُهُ.
          وقال: وأمَّا مسألَةُ الطَّعامِ فهي محتملَةٌ؛ لأن يكُونَ ذلكَ من بابِ المعُونَةِ والإصلاحِ دُونَ بتِّ الحُكمِ بوجُوبِ المثلِ فيهِ؛ لأنَّه ليسَ له مثلٌ معلُومٌ.
          وفي طرُقِ الحديثِ ما يدُلُّ لذلكَ، وإنَّ الطَّعامينِ كانَا مُختلفَينِ، واحتجَّ بهذا الحديثِ الحنفيَّةُ لقولِهِم: إذَا تغيَّرتِ العينُ المغصُوبَةُ بفعلِ الغاصِبِ حتَّى زالَ اسمُهَا وأعظَمُ منافعِهَا زالَ ملكُ المغصُوبِ عنها وملكَهَا الغاصِبُ ويضمنُهَا.
          قال في ((الفتح)): وفي الاستِدْلالِ لذلكَ بهذا الحدِيثِ نظَرٌ لا يخفَى، وفي الحديثِ حسنُ خلُقِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وحلمُهُ وإنصافُهُ.
          قالَ ابنُ العربيِّ: وكأنَّهُ لم يؤدِّبِ الكاسِرةَ ولو بالكَلامِ لمَا وقعَ منهَا منَ التَّعدِّي؛ لأنَّهُ فهمَ منَ الَّتي أهدَتْ أنَّها أرادَتْ بذلكَ أَذَى الَّتي هو في بيتِهَا والمظاهرَةَ عليهَا، كمَا هو عادَةُ الضَّرائرِ فاقتصَرَ على تغريمِهَا للقصعَةِ قالَ: ولم يغرِّمْهَا الطَّعامَ؛ لأنَّهُ كانَ مهدِيًّا لهُم فإتلافُهُ قبُولٌ أو في حُكم القبُولِ، واعترضَهُ في ((الفتح)) فقالَ: وغَفلَ عمَّا وردَ في الطُّرقِ الأُخرى، انتهى.
          أي: الَّتي فيها أنَّهُ قال: ((إنَاءٌ كإنَاءٍ، وطعَامٌ كطعَامٍ)).
          (وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) ليسَ بتعلِيقٍ؛ لأنَّ ابنَ أبِي مريمَ هو سعيدٌ شيخُ المصنِّفِ وغرضُهُ بإيرادِهِ التَّصريحُ بتحدِيثِ أنسٍ لحُميدٍ / (أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ) أي: الطَّويلُ، قال: (حَدَّثَنَا أَنَسٌ) أي: ابنُ مالكٍ ☺ (النَّبِيِّ صلعم) أي: بحديثِ البابِ.