الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات

          2408- وبالسَّندِ قال: (حَدَّثَنَا) ولأبي ذرٍّ: <حدَّثَني> (عُثْمَانُ) أي: ابنُ أبي شَيبةَ قال: (حَدَّثَنَا جَرِيرٌ) بالجيمِ مكبَّراً أي: ابنُ عبدِ الحميد (عَنْ مَنْصُورٍ) أي: ابنِ المعتَمِرِ (عَنِ الشَّعْبِيِّ) أي: عامرِ بنِ شَراحيلَ (عَنْ وَرَّادٍ) بفتح الواوِ وتشديدِ الرَّاء (مَوْلَى الْمُغِيرَةِ) أي: ابنِ شُعبةَ، وثبتَ في بعض الأصول (عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ) وسقط: <شُعبةُ> من بعض الأصُول و((المغيرةُ)) صحابيٌّ مشهورٌ وَليَ إمْرةَ البَصرةِ ثم الكوفة.
          قال في ((الفتح)): والإسنادُ كلُّه كوفيُّون، لكنَّ جَريراً سكنَ الرِّيَّ، ومنصورٌ وشيخُه وشيخُ شيخِه تابعيُّونَ في نسَق.
          (قَالَ: قَالَ رسولُ الله) وفي أكثرِ الأصُول: <النَّبيُّ> (صلعم: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) أي مَعْشَرَ المكلَّفين (عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ) جمعُ أمَّهَة، وهي الأمُّ، ومِثلُهنَّ الآباء، لكنْ قيل: خصَّهنَّ بالذِّكرِ لأنَّ بِرَّهُنَّ مُقدَّمٌ على / بِرِّ الأبِ في التلطُّف، ولأنَّ العقوقَ فيهِنَّ أسرعُ من الآباءِ لضَعفِ عقولِهنَّ (وَوَأْدَ) بفتح الواوِ وسكونِ الهمزة، وقال ابنُ الملقِّن: وضُبِطَ عندَ ابنِ فارسٍ بفتحِها وبالدَّالِ الـمُهملة، مصدرُ وأد؛ أي: دَفْنَ (الْبَنَاتِ) حيَّاتٍ حينَ يولَدْنَ، كان أهلُ الجاهليَّة يفعلون ذلك كراهيَةً فيهنَّ مُطلقاً، وقيل: في زَرْقاء العينِ للتَّشاؤمِ بها، وقال أبو عُبيدٍ: كان أحدُهم في الجاهليَّةِ إذا جاءَتْه البنتُ يدفِنُها حيَّةً حين تولَدُ، ويقولون: القَبرُ صِهرٌ ونِعْمَ الصِّهرُ، وكانوا يفعلونَه غِيرةً وأنَفةً، وبعضُهم يفعَلُه تخفيفاً للمُؤْنةِ ومنهم مَنْ كان يفعلُه مَخافةَ السَّبيِ والاستِرقاق.
          قيل: أوَّلُ مَنْ فعلَ الوأْدَ قيسُ بنُ عاصمٍ التَّميميُّ، وكان بعضُ أعدائه أغارَ عليه فأسر بنتَه، فاتَّخذَها لنفسِه، ثم حصلَ بينهم صُلْحٌ، فخيَّرَ ابنتَه فاختارَتْ زوجَها، فآلى قيسٌ على نفسِهِ أن لا تُولَدَ له بنتٌ إلا دفنَها حيَّةً، فتَبِعَه العرَبُ على ذلك.
          (وَمَنْعاً) كذا لأبي ذرٍّ بسكون النون، مصدرُ منَع يمنَعُ بفتَح النون فيهما، منصوبٌ عطفاً على مفعولِ ((حَرُمَ))؛ أي: وحَرُمَ عليكم منعُ ما يجبُ عليكم أداؤه من الحقوق، وفي رواية غيرِ أبي ذرٍّ: <ومنَعَ> بلا تنوينٍ، بل جعلها الزركشيُّ أصلاً حيث قال: ((ومنَع)) بالفتح، ويُروى ((ومنْعاً)) بالنصب، انتهى.
          وقال القسطلانيُّ: ومنَعَ بفتَحاتٍ بغَيرِ صرفٍ، ولأبي ذرٍّ: ((ومنْعاً)) بسكون النونِ مع تنوين العين، انتهى.
          ومرادُه بغير صَرْفٍ؛ بغَيرِ تنوينٍ، وهو حينئذٍ فعلٌ ماضٍ مُرادٌ منه الحدَثُ فقط، وهو المصدرُ على حدِّ: تسمعُ بالـمُعَيديِّ خيرٌ من أن تراه، وحينئذٍ فيؤولُ للرِّوايةِ الأولى، وبذلك صرَّح شيخُ الإسلامِ حيثُ قال: وفي نسخة: ((ومنَعَ)) بفتح النون؛ على أنَّه فعلٌ، والمرادُ منه ما ذُكِرَ، انتهى.
          وعليه يُحمَلُ كلامُ الزركشيِّ والقسطلانيِّ، وهو الذي رأيناه في بعضِ الأصُول، لكنْ مقتضَى كلامِ ابنِ التِّين أنَّ ((منَع)) على روايةِ تركِ تنوينِهِ مصدرٌ ساكنُ النون، فإنَّه قال على ما نقلَه عنه العينيُّ، وضبَطَ ((منَعَ)) بغَيرِ ألف، قال: وصوابُه ((منْعاً)) بالألِف؛ لأنَّه مفعولُ ((حرَّمَ))، انتهى.
          ويمكنُ تخريجُه على أنَّه تركَ تنوينَه لنيَّةِ لفظِ المضَافِ إليه، على حدِّ قولِ الشَّاعر:
ومِنْ قبْلُ نَادَى كلُّ مَولًى قَرَابةً
          ويُحملُ أنه على لغةُ ربيعةَ، ويؤيِّدُ كونَه مصدراً ما في بعض الأصُول من ضبطِهِ بسكونِ النون غيرَ منوَّنِ العينِ، فتدبَّر، وعلى رواية: ((ومنْعاً)) بالألفِ اقتصرِ الكرمانيُّ والبرماويُّ والعينيُّ.
          (وَهَاتِ) بالبناءِ على الكسر، فعلُ أمرٍ بمعنى: آتِ، من الإيتاء، وصحَّ عَطفُه على ((منْعاً)) بتقدير: وقولَ: هات، أو باعتبارِ لازمِ معناه؛ وهو الأخذُ أو الطَّلب؛ أي: وحرَّمَ عليكم أخْذَ أو طلبَ ما لا يحِلُّ من أموال النَّاس، أشار إلى ذلك البرماويُّ كالكرمانيِّ.
          وعن إسحاقَ بنِ منصورٍ: قلتُ لأحمدَ بنِ حَنبل: ما معنى منَعَ وهاتِ؟ قال: أن تمنَعَ ما عِندكَ فلا تتصدَّقَ ولا تُعطيَ، وتمُدَّ يدَكَ فتأخُذَ من النَّاس.
          (وَكَرِهَ) بفتحِ الكافِ وكسرِ الرَّاء؛ أي: اللهُ تعالى / (لَكُمْ) أي: مَعْشرَ المكلَّفين (قِيلَ) أي: كذا (وَقَالَ) أي: قالَ فلانٌ كذا، يريدُ فُضولَ الكلام، والمرادُ: وكَرِهَ لفظَ: قيل وقال، فهُما فِعلانِ مبنيَّانِ على الفتح، وتقدَّمَ في باب: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [البقرة:273] روايةٌ أخرى؛ وهي: <قيلاً وقالاً> على أنَّهما مصدرانِ منوَّنان، وكلامُ غالبِ الشُّرَّاحِ _الزَّركشيِّ والكرمانيِّ ومَنْ تَبعَهما_ يقتضي أنَّهما هنا روايتان، ولم أرَ ذلك هنا، وفي ((التوضيح)): قال الإمامُ مالكٌ في ((قيل وقال)): هو الإكثارُ في الكلامِ والإرجافُ، نحو قولِ النَّاس: أعطى فلانٌ كذا ومنَعَ كذا، والخَوضُ فيما لا يعني.
          وقال أبو عُبيد: كِنايةٌ عن قيلَ وقوَلَ يقالُ قُلْتُ قَوْلاً وقِيْلاً وقَالاً، وقرأ ابنُ مسعود: ▬ذلك عيسى بن مريم قَاْلَ الحقِّ↨ يعني: قَوْلَ الحقِّ.
          وقال العَينيُّ: والإعرابُ على إجرائهما مَجرى الأسماءِ خلوين من الضَّمير، ومنه قولُهم: الدُّنيا قالَ وقِيل، وإدخالُ حرفِ التَّعريفِ عليهما لذلك في قولِهم: لا نعرِفُ القالَ من القيلَ، ثم قال: وقيل: هذا النَّهيُ إنَّما يصِحُّ في قولٍ لا يصِحُّ، ولا يَعلَمُ حقيقتَه، فأمَّا من حكى ما صحَّ ويَعرِفُ حقيقتَه وأسندَه إلى ثقةٍ صادقٍ فلا وجهَ للنَّهيِ عنه ولا ذمَّ، وقيل: هذا الكلامُ يتضمَّنُ بعُمومِه النَّميمةَ والغِيبةَ، فإنَّ تبليغَ الكلامِ؛ أي: القبيحِ، من أقبحِ الخِصال، والإصغاءُ إليه أقبَحُ وأفحَشُ، انتهى.
          (وَكَثْرَةَ) بنصبِه عطفاً على مفعولِ ((كره)) أي: وكَرِهَ لكم إكثارَ (السُّؤَالِ) أي: في العِلْميَّاتِ أو الأموال، قالَه ابنُ بطَّال، وذلك في العلمِ إن كانَ للامتِحانِ وإظهار الـمِراءِ والجِدال، وأمَّا في الأموالِ فبسؤالِهم إيَّاها، لكن قال التُّورِبِشْتِيُّ: لا أدري حمْلَه على هذا؛ فإنَّ ذلك مَكروهٌ وإنْ لم يبلُغْ حدَّ الكثرة، انتهى.
          وقيل: كثرةُ السُّؤالِ عن أحوال النَّاس، والبحثِ عمَّا لا يعني، قيل: ومنه قولُ الرجلِ لغَيرِه: أين كنت؟ وما صنعتَ اليومَ؟ مثلاً، وربَّما يَكرَهُ المسؤولُ الجوابَ، فيُفضيَ إلى سكوتِه، فيحقِدَ عليه، وقد يُفضي السؤالُ إلى أنْ يلتجِئَ إلى الكذب؛ قال القسطلانُّي: وأمَّا المسائلُ المنهيُّ عنها في زمنِهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فكانَ ذلك خوفاً من أن يُفرَضَ عليهم ما لم يكن فَرْضاً، وقد أُمِنَتِ الغائلةُ.
          وقال ابنُ بطال: وأما ((كثرةَ السؤالِ)) فقال مالكٌ: لا أدري أهوَ ما أنهاكُم عنه من كثرةِ المسائل، فقد كَرِهَ رسولُ الله صلعم المسائلَ وعابَها، أو هو مسألةُ النَّاسِ أموالَهم، انتهى.
          (وَإِضَاعَةَ الْمَالِ) بنصب ((إضاعة)) وتقدَّمَ أوَّلَ التَّرجمةِ بعضُ الكلامِ عليها، ونَزيدُها فنقول: قال الطِّيبيُّ: التقسيمُ الحاصرُ الحاوي لجميعِ الأقسام أن يُقال: إنَّ الذي صُرِفَ فيه إما أن يكونَ واجباً كالنفقةِ والزكاة والحجِّ ونحوِها، فهذا لا ضياعَ فيه بل هو مطلوبٌ، وهكذا إنْ كانَ مندوباً إليه كالإنفاقِ في وجوه البِرِّ والخير لتحصيلِ ثوابِ الآخرة، كالتصدُّقِ به على الفقراءِ والمساكينِ، وكبناءِ المدارس وأنواعِ الخير، فهو محمودٌ ما لم يفوِّتْ واجباً، وإمَّا أن يكونَ حراماً أو مكروهاً، فهذا لا شكَّ في عدمِ طلبِهِ، بل يأثَمُ بالحرام وما أُلحِقَ به، لا فرْقَ بين قليلِهِ وكثيرِه، فإنَّ هذا إضاعةٌ وسرَفٌ، / وإنْ قَلَّ جداً، وإما أن يكونَ مُباحاً، قال: ولا إشكالَ إلَّا في هذا القِسمِ؛ إذ كثيرٌ من الأموالِ يعُدُّه بعضُ النَّاسِ من الـمُباحات، وعند التَّحقيقِ ليس كذلك، كتشييدِ الأبنيةِ وتزيينِهَا والإسرافِ في النَّفقة، والتوسُّعِ في لُبسِ الثِّيابِ والأطعمةِ الشهيَّةِ اللذيذة، قال: وأنتَ تعلمُ أنَّ قسوةَ القلبِ وغِلَظَ الطَّبعِ تتولَّدُ من لُبسِ الرِّقاقِ وأكلِ الرِّقاق، ويدخلُ فيه تمويهُ الأواني والسُّقوفِ بالذَّهب والفِضَّةِ، وسوءُ القيامِ على ما يملِكُه من الرَّقيقِ والدَّوابِّ حتى يضيعَ، واحتِمالُ الغُبنِ الفاحشِ في البَياعات، انتهى.
          وقسَّمَ غيرُه المباحاتِ إلى قسمَين، بل يشمُلُهما كلامُه، فقال: أحدُهما ما يكونُ على وجهٍ يليقُ بحالِ المنفِقِ وبقدْرِ حالِهِ ومالِهِ، فهذا لا يُعَدُ إسرافاً، والثَّاني ما لا يليقُ به عُرْفاً، وهذا ينقَسِمُ إلى قِسمَين أيضاً: أحدُهما ما يكونُ لدفعِ مفسَدةٍ ناجزةٍ أو متوقَّعةٍ كالذَّبِّ عن العِرْضِ، فهذا لا يُعَدُّ إسرافاً، وثانيهما: ما لا يكونُ في شيءٍ من ذلك، والجمهورُ على أنه إسراف، وذهب بعضُ الشَّافعية إلى أنَّه ليس بإسرافٍ؛ لأنَّه لمصلحةِ البدَنِ في الجُملة، وهو غرَضٌ صحيحٌ، فهو مُباحٌ حيثُ لا مَعْصيةَ فيه.
          قال ابنُ دقيقِ العيد: وظاهرُ القرآنِ يَمنعُ ما قاله، وصرَّح القاضِي حُسَينٌ والغَزاليُّ بأنه يُعَدُ إسرافاً، وجزَمَ به الرافعيُّ، لكنَّه صحَّحَ في باب الحَجْرِ من الشَّرحِ، والمحرَّرُ أنه ليسَ بتبذيرٍ، وتَبِعَه النَّوويُّ، وقال القسطلانيُّ: والذي يترجَّحُ أنه ليس مذموماً لذاتِه، لكنه يُفضي غالباً إلى ارتكابِ المحظور؛ كسؤالِ النَّاس، وما أدَّى إلى المحذورِ محذورٌ.