الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: بخ ذلك مال رائح ذلك مال رائح

          2318- وبالسند قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) أي: ابنِ بَكْرٍ الحنظَليُّ (قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ) أي: المجتهدِ (عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بالتكبير؛ أي: ابنِ أبي طَلحةَ (أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ☺ يَقُولُ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ) هو: زيدُ بنُ سهلٍ الأنصاريُّ (أَكْثَرَ الأَنْصَارِ) ولأبي ذرٍّ: <أكثرَ أنصاريٍّ> وعلى روايةِ أبي ذرٍّ قالَ الكرمانيُّ: فإن قلتَ: القياسُ يقتضي أن يقالَ: أكثَرَ الأنصارِ. قلتُ: أرادَ التفضيلَ على التفصيلِ؛ أي: أكثَرَ من كلِّ واحدٍ من الأنصار.
          (بالمدِينَةِ) متعلِّقٌ بـ((أكثرَ)) (مَالاً) تمييزٌ لـ((أكثَرَ)) وكان نخلاً (وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ) الضميران لأبي طلحةَ (بِيْرُحَاءَ) بكسر الموحدة وسكون التحتية وضم رائه ممدوداً للأكثر، ورواه أبو ذرٍّ بغير همزٍ، وهو الأفصَحُ، كما قال الكرمانيُّ، وفيه وجوهٌ تقدَّمَتْ في الزَّكاةِ، وهو اسمُ حديقةٍ، و((بِيرُ)) مرفوعٌ، اسمُ: ((كان))، و((أحبَّ)) منصوبٌ، خبرُها، وبالعكس.
          (وَكَانَتْ) أي: بيرُحاءَ (مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدَ) أي: مسجِدِ رسولِ الله (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم يَدْخُلُهَا / وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ) بالجرِّ، نعتُ: ((ماءٍ)) بعد نعتٍ (فَلَمَّا نَزَلَتْ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}) وأنَّثَ: ((نزلَتْ)) لتأنيثِ فاعلِه؛ وهو: {لَنْ تَنَالُوا...} إلخ، لأنَّ المرادَ به الآيةُ، والمرادُ بـ{البِرَّ}: الخيرُ الكاملُ.
          أو بر الله الذي هو الرَّحمة والرِّضا والجنَّة، قاله البيضَاوي.
          و{مِمَّا تُحِبُّونَ} أي: بعضَه، ويدلُّ لذلك أنه قرئ: ▬بعض ما تحبون↨ قال البيضاويُّ: وتحتمل من التَّبيين فتدبَّر، والمرادُ ما يحبون من المال أو ما يعمُّه كبذل الجاهِ والبدنِ في طاعةِ الله.
          وقوله: (قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلعم) جواب لما (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ) أي: القرآن العزيز ({لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ) بتشديد الياء (بِيْرُحَاءَ) بكسر الموحدة وضم الراء مهموزاً ممدوداً لأبي ذرٍّ، كما في الفرع، وفي بعضِ الأصُول هنا بفتح الموحدة أيضاً (وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ) أي: وقف (لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا) بكسر الموحدة؛ أي: خيرها (وَذُخْرَهَا) بضم الذال المعجمة (عِنْدَ اللَّهِ) متعلِّق بــــ(أرجو) (فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ شِئْتَ) بفتح التاء، وفي كثيرٍ من الأصولِ: <حيث أراكَ اللهُ> وهذه أنسبُ بالتَّرجمة يريدُ بيان مصرفها لمن يكون.
          (فَقَالَ) أي: رسولُ الله (بَخٍ بَخٍ) بفتح الموحدة وسكون الخاء المعجمة وتشديدها وبكسرها منونة مع التخفيف والتشديد، وفي الأربع لغات تقال عند مدحِ الشَّيء والرِّضا به، وقد تكرَّر وهي هنا مفردةٌ على أني رأيتُ في بعضِ الأصُول ذكرها مرَّتين (ذَلِكَ) أي: هذا المال الذي وقفتُه (مَالٌ رَائِحٌ) بالهمز والحاء المهملة، كما في الفرع وغيره (ذَلِكَ مَالٌ رَائِحٌ) بالهمز والحاء أيضاً.
          قال القسطلانيُّ: أي: ذاهب، فإذا ذهبَ في الخير فهو أولى، وقال ابنُ الملقِّن: ورائح؛ أي: يروحُ لصاحبهِ بالأجر إلى يوم القيامةِ، أو يروحُ عليه في الآخرةِ بالأجرِ العظيمِ، قال: ومَن رواهُ بالباء فهو مربوحٌ فيه، وقيل: وضَعَه صاحبُهُ موضعَ الرِّبح، وتقول العرب: متجرٌ رابحٌ، ويقال: مربحٌ.
          قال: وفيه روايةُ الحديثِ بالمعنى؛ لأنه إنما قال عليه السَّلام إحدى الكلمتينِ، نبَّه عليه الدَّاودي، وليس ببين، وإنما هي رواية بالياء وأخرى بالباء، انتهى.
          وقال العينيُّ: رائج _بالجيم_ من الرَّواجِ، وقيل: بالحاء؛ أي: المهملة، وقيل: بالباء الموحدة، انتهى.
          (قَدْ) بغير واو قبلها، وفي بعضِ الأصُول زيادة: <قال> قبل: قد؛ أي: قال رسولُ الله: قد (سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهَا) أي: في بيرحاء (وَأَرَى) بفتح الهمزة والراء (أنْ تَجْعَلَها) بتاء الخطاب (فِي الأَقْرَبِينَ) أي: على أقاربكَ إذ الأقربونَ أولى بالمعروفِ لا في أقاربِ النَّبي صلعم لما في آخر الكلامِ.
          (قَالَ) أي: أبو طلحة (أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ) أفعل مضارعٌ للمتكلِّم وحده لا فعل أمرٍ؛ لقوله: (فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ) من عطفِ الخاصِّ على العام، ويحتملُ أنه من العطفِ المغايرِ، فتأمَّل.
          وقال في ((الفتح)): أفعلُ مضبوطٌ في الطرقِ كلِّها بهمزةِ قطعْ على أنَّه فعلٌ مستقبل، وحكى الدَّاوديُّ فيه صيغةَ الأمر؛ أي: افعلْ ذلك أنت يا رسولَ الله، وتعقَّبه / ابن التِّين بأنَّه لم تثبتْ به الرِّواية، وأنَّ السياقَ يأباهُ، انتهى.
          تنبيه: وقع نظيرُ قصَّة أبي طلحة هذا في الجملة قصَّة لزيد بن حارثة، فقد ذكر أهلُ التَّفسير واللفظُ للبيضاويِّ أن الآية المذكورة لما نزلتْ جاء زيد بنُ حارثة بفرسٍ كان يحبُّها فقال: هذا في سبيلِ الله، فحملَ عليه رسول الله صلعم أسامةَ _أي: ابن زيد_ فقال زيد: إنما أردتُ أن أتصدقَّ به، فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: ((إنَّ الله تعالى قد قبلَهُ منك)) انتهى.
          وفي هاتين القصَّتين دليل على أن إنفاقَ أحب الأموالِ على أقرب الأقاربِ أفضلُ، ولكن الآية تعمُّ الإنفاقَ الواجبَ والمستحبَّ، والمطابقةُ بين التَّرجمة والحديثِ من قول أبي طلحةَ للنَّبي صلعم: إنَّها صدقةٌ، فضعها يا رسولَ الله حيث شئتَ، فإنَّه لم ينكرْ عليه ذلك، وإن لم يضعْهَا عليه السَّلام بنفسهِ بل أمرَهُ أن يضعَهَا في الأقربين، لكن الحجَّة في تقريرهِ عليه السَّلام ذلك، ويُؤخذ منه أن الوكالةَ لا تتمُّ إلا بالقبولِ؛ لأن أبا طلحةَ قال: ضعهَا حيث أراكَ الله، فردَّ عليه ذلك، وقال: ((أرى أن تجعلَهَا في الأقربين)).
          قال ابنُ الملقِّن: وفيه أنَّ من أخرجَ شيئاً من مالهِ لله ولم يملكْهُ أحداً فجائزٌ أن يضعَهُ حيث أراهُ الله من سُبل الخير، وجاز أن يشاورَ من يثقُ برأيه من إخوانهِ وليس لذلك وجهٌ معلومٌ لا يتعدَّى، كما قال بعضُ النَّاس: معنى قول الرجلِ لله، وفي سبيلِ الله، وفي وجهٍ دون وجهٍ.
          ألا ترى هذه الصَّدقة الموقُوفة رجعَتْ إلى قرابةِ أبي طلحةَ ولو سبَّلها في وجهٍ من الوجوه لم تصرفْ إلى غيره، واختلفَ الفقهاءُ إذا قال الرجلُ: خذْ هذا المال فاجعلْه حيث أراكَ اللهُ من وجُوه الخيرِ هل يأخذُ لنفسهِ إن كان فقيراً أم لا؟.
          فقالتْ طائفةٌ: لا يأخذُ منه شيئاً؛ لأنه إنما أمرَ بوضْعهِ عند غيرهِ، وهذا يشبِهُ مذهبَ مالك في ((المدونة)) كما قال ابنُ بطَّال: سُئل مالكٌ عن رجل أوصَى بثلثِ مالهِ لرجلٍ أن يجعلَهُ حيث رأى فأعطَاهُ ولد نفسِهِ؛ يعني: ولد الوصِي أو أحداً من ذوي قرابته.
          قال مالك: لا أرى ذلك جائزاً، وقال آخرون: يأخذُ منه كنصيب أحدِ الفقراء، وقال آخرون: جائزٌ أن يأخذَ لنفسه كله إن كان فقيراً.
          (تَابَعَهُ) أي: تابع يحيى بن يحيى (إِسْمَاعِيلُ) أي: ابن أبي أويس (عَنْ مَالِكٍ) أي: الإمامِ فيما وصلهُ المصنِّف في تفسيرِ آل عمران (وَقَالَ رَوْحٌ) بفتح الراء وسكون الواو وبالحاء المهملة؛ أي: ابن عبادةَ بن العلاء بن حسَّان القيسِي البصري، ثقةٌ فاضل له تصانيفُ من الطبقةِ الصُّغرى من أتباعِ التابعين، مات سنة خمس أو سبع ومائتين، قاله في ((التَّقريب)).
          (عَنْ مَالِكٍ) أي: في روايتهِ عنه أيضاً (رَابِحٌ) بالموحدة، قال القسطلانيُّ فيما وصله الإمامُ أحمدُ عنه، وفي غير الفرعِ من الأصُول في رواية يحيى: ((رابح)) بالموحدة، انتهى.
          وبهذا يعلمُ أنَّ قول المصنِّف: وقال روح... إلخ تعليقٌ؛ لأن روحاً المذكور ليس من مشايخهِ، وإن أدركَهُ سنًّا، كما في ((التَّقريب)) فافهم.
          وحديث الباب سبقَ في باب الزكاةِ على الأقاربِ.