الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: الصلوات الخمس إلا أن تطوع شيئًا

          1891- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ): أي: الثَّقفي قال: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ): أي: الأنصاري (عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ): مصغَّرُ سهلٍ واسمه نافعٌ (عَنْ أَبِيهِ): أي: مالك بن أبي عامرٍ، وهو جدُّ الإمام مالك بن أنسٍ (عَنْ طَلْحَةَ): بفتح الطَّاء المهملة وسكون اللام (ابْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ): تصغيرُ عبدٍ، أحد العشرة المبشَّرين بالجنَّة ♥ (أَنَّ أَعْرَابِيّاً): تقدَّم في كتاب الإيمان: أنَّه ضمام بن ثعلبةَ ☺، (جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلعم ثَائِرَ الرَّأْسِ): بمثلَّثةٍ، حالٌ، وضُبط في بعض الأصول الصَّحيحة بالرَّفع على أنه خبر؛ أي: هو منتفش شعر الرأس (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي مَا): وفي بعض الأصول: <بماذا> (فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ): بتشديد التحتيَّة (مِنَ الصَّلَاةِ): بالإفراد، وفي بعض الأصول: بالجمع.
          (فَقَالَ): أي: رسول الله صلعم (الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ): بالرفع خبرٌ لمحذوف، ولأبي ذرٍّ: <الصلواتِ الخمسَ في اليوم واللَّيلةِ> بنصب ((الصَّلوات)) بتقدير فرَضَ، وزيادةِ: ((في اليومِ واللَّيلةِ)).
          وقوله: (إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ): بتشديد الطَّاء وقد تُخفَّف (شَيْئاً): نصب على أنه صفة مصدرٍ محذوفٍ، والتطوُّع في العرف: النَّفل.
          وقال الدَّماميني نقلاً عن ابن المنيِّرِ: تطوَّع بمعنى أطاع، أعمُّ من كونه واجباً أو نفلاً، ويدلُّ على إطلاق التطوُّع على الواجب قوله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ [مِنَ الْمُؤْمِنِينَ] فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:79] فإنه في الصَّدقة الواجبة، وأما غلبة العرف في التطوُّع، فأمرٌ حادثٌ، انتهى.
          زاد في كتاب الإيمان قبله: ((فقال: هل عليَّ غيرُها؟ قال: لا))، واختُلِف في هذا الاستثناءِ أهو منقطعٌ أو متَّصلٌ؟ فعلى الانقطاع يكون المعنى: لكنَّ التطوُّع مستحبٌّ لك، وعليه فلا تلزم النَّوافل بالشُّروع فيها، ويدلُّ له: ما رواه النَّسائي وغيره: ((أن النبيَّ صلعم كان أحياناً ينوي صومَ تطوُّعٍ ثم يفطرُ)). فهذا نصٌّ في الصوم، وقيس عليه غيره.
          وقال الحنفيَّة: الاستثناء متَّصلٌ، فأوجبوا التطوُّع بالشُّروع فيه، قالوا: لأنه نفي وجوبٍ بشيءٍ آخر إلَّا ما تطوَّع به، والاستثناء من النفي إثباتٌ، فيكون المثبت بالاستثناء وجوب ما تطوَّع به، وهو المطلوب.
          وتُعقِّب: بأن هذا مغالطةٌ؛ لأن هذا الاستثناء من باب نحو قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:22]؛ أي: ليس عليكم غيرها إلَّا أن تطوَّع، وقد عُلِم أن التطوُّع ليس بواجبٍ.
          (فَقَالَ): أي: الأعرابي، وسقطت الفاء من بعض النُّسخ (أَخْبِرْنِي مَا): ولأبوَي ذرٍّ والوقت وابن عساكر: <بما>، وفي بعض الأصول: <فأخبرني بما> (فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الصِّيَامِ، فَقَالَ: شَهْرُ رَمَضَانَ): برفع ((شهر)) ونصبه على ما مرَّ، وزاد في كتاب الإيمان عقبه: ((فقال: هل عليَّ غيرُهُ؟ فقال: لا)).
          (إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئاً): يجري فيه ما في سابقه (فَقَالَ): أي: الأعرابي، وسقطت الفاء من بعض النُّسخ (أَخْبِرْنِي): وفي بعض النُّسخ: <فأخبرني> (بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الزَّكَاةِ، فَقَالَ): وسقطت الفاء لأبوَي ذرٍّ والوقت وابن عساكر (فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلعم بِشَرَائِعِ الإِسْلَامِ): وسقطت الباء لغير أبي ذرٍّ وابن عساكر، فانتصب مجرورُها على المفعوليَّة، وشرائعُ الإسلام شاملٌ لفرضيَّة الزكاة، وبيان مقدارها ونصبها، وللحجِّ وأحكامه وغير ذلك، ففيه الجواب مع زيادةٍ، وقيل: إن الحجَّ لم يكن فُرِض أصلاً، أو لم يُفرَض على السائلِ، وحينئذ فلا إشكالَ على إخباره عليه السلام له بالفلاح إن صدقَ.
          (فَقَالَ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ): زاد الكشميهنيُّ: <بالحقِّ> (لَا أَتَطَوَّعُ شَيْئاً): ويُروى: <أطَّوَّع> بتشديد الطاء (وَلاَ أَنْقُصُ): بضم القاف (مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ شَيْئاً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ، أَوْ: دَخَلَ الْجَنَّةَ): شكٌّ من الراوي، ولأبي ذرٍّ: <أو أُدخِل الجنة> (إِنْ صَدَقَ): قال الكرماني: فإن قلتَ: مفهومه: إذا تطوَّع لا يُفلِح أو لا يدخل الجنَّة؟
          قلتُ: هذا مفهوم مخالفةٍ، وله مفهوم موافقةٍ بالأَولى، وهو مقدَّمٌ على مفهوم المخالفة، أو هو من باب: نعم العبدُ صهيبٌ لو لم يخفِ الله لم يعصِه، فتأمَّلْ.
          وفيه: دليلٌ على أنَّ أداء الفرائض يُوجِبُ الجنَّة، وأن عملَ السُّنن يُوجِب الزيادة في الجنَّة، وسبق غالبُ أبحاثِ الحديث في كتابِ الإيمان.