الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: أمر بلال أن يشفع الأذان وأن يوتر الإقامة

          607- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) أي: المديني، قال: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هو الشَّهير بابن عليَّة أمه، قال: (حَدَّثَنَا خَالِدٌ) أي: الحذَّاء، كما في رواية (عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ) بكسر القاف (عَنْ أَنَسٍ) أي: ابن مالك، كما للأصيلي (قَالَ: أُمِرَ بِلاَلٌ أَنْ يَشْفَعَ) بفتح الفاء (الأَذَانَ، وَأَنْ يُوتِرَ الإِقَامَةَ) اعترضَ الإسماعيلي على المصنِّف بأن إيرادَ حديث سماك بن عطيَّة المار في الباب قبلَهُ أولى من إيرادِ حديث ابن عليَّة.
          وأجاب في ((الفتح)): بأن المصنِّف قصدَ رفعَ وهم من يتوهَّم أنه موقوف على أيُّوب؛ لأنه أورده في مقام الاحتجاجِ بقوله: ولو كان عنده مقطوعاً لم يحتجَّ به.
          (قَالَ إِسْمَاعِيلُ) أي: ابن عليَّة المذكور آنفاً بسنده فليس بمعلَّق (فَذَكَرْتُ ذَلِكَ) كذا في بعض الأصول وفي أكثرها: <فذكرت> بحذف المفعول، وللأصيلي والكشميهني: <فذكرته> أي: حديث خالد (لأَيُّوبَ) أي: السِّختياني (فَقَالَ) أي: أيوب (إِلاَّ الإِقَامَةَ) أي: إلا لفظ: قد قامتِ الصَّلاة، فيه مع سابقهِ تحصلُ المطابقة، بل بالسَّابق أيضاً وحده.
          تنبيه: زعمَ ابنُ مندَهُ كالأصيلي أن قوله في حديثِ سماك المار آنفاً: ((إلَّا الإقامة)) من قول أيُّوب غير مسند لتصريحهِ هنا بأنها من قوله فهو هناك مدرجٌ في الحديث.
          قال في ((الفتح)): وفيما قالاهُ نظرٌ؛ لأن عبدَ الرَّزَّاق / رواه عن مَعْمر عن أيُّوب بسندِهِ متَّصلاً بالخبر بلفظ: ((كان بلال يثنِّي الأذان ويُوتر الإقامةَ، إلَّا قوله قد قامت الصَّلاة)). وكذا رواه أبو عوانة في ((صحيحه))، والسِّراج في ((مسنده))، وللإسماعيلي من هذا الوجه: ((ويقول: قد قامت الصَّلاة مرَّتين)).
          والأصل أن ما في الخبر منه حتَّى يقوم دليل على خلافه، ولا دليلَ لهما في رواية إسماعيل هذه لما زعمَاهُ؛ لأنَّ حاصلهُ أن خالداً كان لا يذكر الزِّيادة، وكان أيُّوب يذكرها، وكلٌّ منهما روى الحديثَ عن أبي قلابةَ عن أنسٍ، فكان في رواية أيُّوب زيادة: ((من حافظ)) فتقبل.
          قال في ((فتح الباري)): وهذا الحديثُ حجَّة على من زعمَ أنَّ الإقامة مثنى مثل الأذان.
          وأجاب بعضُ الحنفيَّة بدعوى النَّسخ، وأنَّ إفرادَ الإقامة كان أولاً، ثم نسخَ بحديث أبي محذورةَ، يعني: الذي رواه أصحابُ ((السُّنن))، وفيه تثنيةُ الإقامة، وهو متأخِّر عن حديث أنسٍ، فيكون ناسخاً.
          وعورضَ بأنَّ في بعضِ طُرُق حديث أبي محذورةَ المحسنة التَّربيع والتَّرجيع، فكان يلزمُهُم القول به.
          وقد أنكرَ أحمدُ على من ادَّعى النَّسخ بحديث أبي محذورة، واحتجَّ بأن النَّبي صلعم رجع بعد الفتح إلى المدينة، وأقرَّ بلالاً على إفراد الإقامة، وعلَّمه سعداً القرظي فأذَّن به بعده، كما رواه الدَّارقطني والحاكم.
          وقال ابنُ عبد البرِّ: ذهبَ أحمد وإسحاق وداود وابنُ جرير: إلى أنَّ ذلك من الاختلاف المباح، فإن ربع التَّكبير الأول في الأذان أو ثناه أو رجَّع في التشهد أو لم يرجِّع، أو ثنَّى الإقامة أو أفردها كلها، أو إلا قد قامت الصَّلاة، فالجميعُ جائز.
          وعن ابنِ خُزيمة: أن ربَّع الأذانَ ورجَّع فيه ثنى الإقامة وإلا أفردَهَا، وقيل: لم يقل هذا التَّفصيل أحد قبله، انتهى.
          وتعقَّبه العينيُّ بقوله: الذي رواه التِّرمذي من حديث عَمرو بن مرَّة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الله بن زيد قال: ((كانَ أذانُ رسولِ الله صلعم شفْعاً شفْعاً في الأذان والإقامة))، حجَّة على هذا القائل بقوله: وهذا الحديث حجَّة على من زعم أن الإقامةَ مثنى مثنى مثل الأذان، وكذلك ما رواه ابنُ خزيمة في ((صحيحه)) ولفظه: ((فعلَّمَه الأذانُ والإقامة مثنى مثنى))، وكذلك رواه ابنُ حبَّان في ((صحيحه)) كلُّ هذه حجَّة عليه وعلى إمامه، انتهى.
          وأقول: هذا لا يعارضُ ما في ((الصَّحيح)) وعلى تسليمهِ فهو معارضٌ بالحديثِ المار آنفاً بما احتجَ به الإمام أحمد ورواه الدَّارقطني والحاكم.
          وقد جاء كما في ((سيرة الحلبي)): أنَّ أبا يوسف ناظرَ الشَّافعي في المدينة بين يدي مالك والرَّشيد، فأمر الشَّافعي بإحضَار أولاد سائر مؤذِّني رسولِ الله صلعم وقال: كيف تلقَّيتم الأذانَ والإقامة من آبائكُم؟ فقالوا: الأذان مثنى والإقامة فرادَى، هكذا تلقَّينا من آبائنا، وآباؤنا من أسلافِنَا زمنَ رسولِ الله صلعم.
          تذييل: قيل: الحكمةُ في تثنية الأذان وإفرادِ الإقامة أنَّ الأذانَ لإعلام الغائبين، فيكرَّر ليكون أوصلَ إليهم بخلافِ الإقامة فإنها للحاضِرين، ومن ثم يستحبُّ أن يكون الأذانُ في مكانٍ عالٍ بخلافِ الإقامة، وأن يكون الصَّوت في الأذان أرفعَ منه في الإقامة.
          وأمَّا قول الخطَّابي: لو سوَّى بينهما لاشتبه الأمرُ في ذلك، وصار لأنْ يفوت كثيراً من النَّاس صلاة الجماعة، ففيه نظر؛ / لأن الأذان يستحبُّ أن يكون على موضعٍ عالٍ، والأذان مرتَّلاً والإقامة مسرَّعة، وكررت: قد قامت الصَّلاة؛ لأنها المقصُودة من الإقامة بالذَّات.