نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: إنك دعوتنا خامس خمسة وهذا رجل قد تبعنا

          5434- (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) هو: أبو أحمد البُخاري البِيْكَندي، قال: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هو: ابنُ عيينة (عَنِ الأَعْمَشِ) سليمان بن مهران الكوفي (عَنْ أَبِي وَائِلٍ) شقيق بن سلمة (عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ) عقبة بن عَمرو (الأَنْصَارِيِّ) البدري، أنَّه (قَالَ: كَانَ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو شُعَيْبٍ) لم يُعْرف اسمه (وَكَانَ لَهُ غُلاَمٌ) لم يعرف اسمه أيضاً (لَحَّامٌ) يبيع اللَّحم، وتقدَّم في البيوع [خ¦2081] بلفظ: ((قصاب)) (فَقَالَ) له أبو شعيب (اصْنَعْ لِي طَعَاماً، أَدْعُو رَسُولَ اللَّهِ صلعم خَامِسَ خَمْسَةٍ) معناه: أدعو أربعة أنفس، / ويكون النَّبي صلعم خامِسَهم. يقال: خامسَ أربعة وخامسَ خمسة بمعنى واحد، قال الله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} [التوبة:40] وثالث ثلاثة، ومعنى خامس أربعة زائد على أربعة وحقيقته مصيرُ الأربعة خمسة، ومعنى خامس خمسة أحدهم، والأجود نصب خامس على الحاليَّة، ويجوز رفعه على تقدير: ادعوا رسول الله صلعم ، وهو خامس خمسة، والجملة أيضاً تكون حالاً. وفي رواية حفص بن غياث في البيوع [خ¦2081]: ((اجعلْ لي طعاماً يكفي خمسةً فإنِّي أريد أن أدعوَ رسولَ الله صلعم وقد عَرَفْتُ في وَجْهِه الجوعَ))، وفي رواية مسلم عن الأعمش: ((اصنع لنا طعاماً لخمسةِ نَفَرٍ)).
          (فَدَعَا رَسُولَ اللَّهِ صلعم خَامِسَ خَمْسَةٍ، فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ) لم يُسَمَّ، وفي رواية أبي عوانة، عن الأعمش: ((فاتَّبعهم)) بتشديد المثناة الفوقية بمعنى تَبِعَهم. وفي رواية حفص بن غياث: ((فجاء معهم رجل)).
          ومثل هذا الرَّجل الذي يتَّبع بلا دعوة يسمَّى: طفيليًّا، مأخوذاً من التَّطفُّل، ويقال: هو منسوبٌ إلى رجل من أهل الكوفة يقال له: طُفيل من بني عبد الله بن غطفان كان يأتي الولائم من غير أن يُدْعى، وكان يقال له: طُفيل الأعراس فسمِّي من اتَّصف بصفته طفيلياً. وكانت العربُ قديماً تسمِّيه: الوارش، بشين معجمة، هذا إذا دخل لطعام لم يُدْعَ إليه، وإن دخل لشراب لم يُدْعَ إليه يسمونه: الواغل، بالغين المعجمة، ويقال أيضاً لمن يتبع المدعوَّ بغير دعوة: ضَيْفِنٌ، بنون زائدة.
          (فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم ) لأبي شُعيب (إِنَّكَ دَعَوْتَنَا خَامِسَ خَمْسَةٍ، وَهَذَا رَجُلٌ قَدْ تَبِعَنَا) وفي رواية جرير وأبي عوانة: ((اتَّبعنا)) بالتَّشديد، وفي رواية أبي معاوية: ((لم يكن معنا حين دعوتنا)) (فَإِنْ شِئْتَ أَذِنْت لَهُ) وفي رواية أبي معاوية: ((فإن أذنت له دخل)) (وَإِنْ شِئْتَ تَرَكْتَهُ، قَالَ) أبو شعيب (بَلْ أَذِنْتُ لَهُ) وفي رواية أبي أسامة: ((لا بل أذنتُ له))، وفي رواية جرير: ((لا بل آذن له يا رسول الله))، / وفي رواية أبي معاوية: ((فقد أذنا له فليدخل)).
          وقد مرَّ الحديثُ في كتاب البيوع، في باب ما قيل في اللَّحام [خ¦2081]، وفي المظالم [خ¦2456].
          وقد ذكر فيه فوائد، ومن جملتها: أنَّ من تطفَّل في الدَّعوة كان لصاحب الدَّعوة الاختيار في حرمانه، فإن دخلَ بغير إذنه كان له إخراجه، وأنَّه يحرم التَّطفل إلَّا إذا عُلِمَ رضى المالك له لما بينهما من الإنس والانبساط، وقيَّد ذلك بالدَّعوة الخاصَّة، أمَّا العامَّة مثل إن فتحَ الباب ليدخلَ من شاء فلا تطفُّل. وفي «سنن أبي داود» بسندٍ ضعيفٍ عن ابن عُمر ☻ رفعه: ((من دخلَ بغير دعوة دخل سارقاً وخرج مغيراً)). فإن قيل: كيفَ استأذن النَّبي صلعم في هذا الحديث على الرَّجل الذي دعاه، وقال في حديث أبي طلحة في «الصَّحيح» لمن معه: ((قوموا)).
          أجيبُ بأجوبة:
          الأوَّل: أنَّه عَلِمَ من أبي طلحة رضاه بذلك فلم يَسْتأذنْ ولم يَعْلَم رضى أبي شعيب فاستأذنه.
          الثَّاني: أنَّ أَكْلَ القومِ عند أبي طلحة ممَّا خَرَقَ الله تعالى به العادة وبركة أحدثها الله ╡ لا ملك لأبي طلحة عليها، فإنَّما أطعمهم ممَّا لا يملكه فلم يفتقر إلى استئذانه.
          الثَّالث: أنَّ الأقراصَ جاء بها إلى النَّبي صلعم إلى مسجده ليأخذها منه فكأنَّه قبلها وصارت ملكاً له فإنَّما استدعى لطعامٍ يملكُه فلا يلزمه أن يستأذنَ في ملكه، والجواب الثَّاني أوجه.
          ومطابقةُ الحديث للتَّرجمة تُؤخذ من قوله: ((ادعوا رسول الله صلعم خامس خمسة)).
          (قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوْسُفَ) قال العينيُّ: هو الفريابي، والظَّاهر هو البِيْكَندي شيخ البُخاري في الحديث السَّابق (سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيْلَ) يعني: البُخاري (يَقُوْلُ: إِذَا كَانَ القَوْمُ عَلَى الْمَائِدَةِ) التي دعوا إليها (لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُنَاوِلُوا) غيرهم (مِنْ مَائِدَةٍ إِلَى أُخْرَى) أي: إلى مائدة أخرى (وَلَكِنْ يُنُاوِلُ بَعْضُهُم بَعْضاً فِي تِلْكَ الْمَائِدَةِ) لأنَّه صار لهم بالدَّعوة عموم أذن بالتَّصرف في الطَّعام المدعو إليه بخلاف من لم يدع (أَوْ يَدَعْ) أي: يترك ذلك، والحاصل أنَّه يُنَزَّلُ من وُضِعَ بين يديه الشَّيء منزلةَ من دُعِيَ له، ويُنَزَّلُ الشَّيء الذي / وُضِعَ بين يدي غيره منزلة من لم يُدْعَ إليه.
          وكأنَّ البُخاريَّ ☼ استنبط هذا من استئذانهِ صلعم الدَّاعي في الرَّجل الذي تبعهم.
          قال الحافظُ العسقلاني: ومقتضاه أنَّه لا يطعم هراً ولا سائلاً إلَّا إذا علم رضاهُ به للعرف في ذلك، وله تلقيمُ صاحبه، وتقريبُ المضيفِ الطَّعامَ للضَّيف إذنٌ له في الأكل اكتفاء بالقرينة العرفية إلَّا إذا انتظر المضيف غيره فلا يأكل إلَّا بالإذن لفظاً، أو بحضور الغير لاقتضاء القرينة عدم الأكل بدون ذلك، ويملك ما التقمَه بوضعه في فمه، وهذا مقتضى كلام الرَّافعي في «الشَّرح الصَّغير» بالتَّرجيح، وصرح بترجيحه القاضي والأسنوي، وقضية كلام المتولي ترجيحُ أنَّه تبين بالازدراء أنَّه ملكه، وقيل: يملك بوضعه بين يديه، وقيل: بتناوله في يده، وقيل: لا يملكه أصلاً بل شبه الذي يأكله كشبه العارية.
          وتظهرُ فائدة الخلاف فيما لو أكل الضَّيفُ تمراً وطرحَ نواه فنبت فلمن يكون شجره، وفيما لو رجع فيه صاحبُ الطَّعام قبل أن يبلعه.
          وقد سقط قوله: ((قال محمد بن يوسف...إلى آخره)) في رواية غير أبي ذرٍّ عن المستملي.