نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: لو رجمت أحدًا بغير بينة رجمت هذه

          5310- (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ) هو: سعيدُ بن كثير بن عُفَير، بضم العين المهملة وفتح الفاء مصغراً، مولى الأنصاريِّ المصري، قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (اللَّيْثُ) أي: ابن سعد الإمام (عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) هو: الأنصاريُّ (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ) وفي رواية سليمان بن بلال: ((عن يحيى بن سعيد، أخبرني عبد الرَّحمن بن القاسم))، وسيأتي بعد ستَّة أبواب (عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ) أي: ابن أبي بكر الصِّديق ☻ ، وهو والد عبد الرَّحمن راويه عنه.
          (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) ☻ (أَنَّهُ) يعني: أنَّه قال، فحذف لفظ قال، وصرَّح بذلك في رواية سليمان الآتية [خ¦5316]، وقوله: (ذُكِرَ) على البناء للمفعول أسند إلى قوله: (التَّلاَعُنُ) أي: ذُكِرَ حُكْمُ الرَّجُلِ الذي يرمي امرأتَه بالزِّنا، فعبر عنه بالتَّلاعن باعتبار ما آل إليه الأمر بعد نزول الآية، ووقع في رواية سليمان: ((ذُكِرَ المتلاعِنان)).
          (عِنْدَ النَّبِيِّ صلعم ، فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ) أي: ابن الجد العجلان ابن حارثة بن ضبيعة العجلاني، ثمَّ البلوي، وهو صاحبُ عويمر العجلاني الذي قال له: / سَلْ لي يا عاصمُ، رسولَ الله صلعم في حديث اللِّعان، وعاصمُ شَهِدَ بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها. وقيل: لم يشهد بدراً بنفسه؛ لأنَّه صلعم قد استخلفه حين خرج إلى بَدْرٍ على قباء وأهل العالية، وضَرَبَ له بسهمه، فكأنَّه كان قد شهد بدراً، وتوفي سنة خمس وأربعين، وقد بلغ قريباً من عشرين ومئة سنة.
          (فِي ذَلِكَ قَوْلاً) هو: أنَّه كان قد قال عند رسول الله صلعم أنَّه لو وجد مع امرأته رجلاً لضربه بالسَّيف حتَّى يقتلَه فابتُلِيَ بعويمر العجلاني، وهو من قومه؛ ليريه الله تعالى كيف حُكمه في ذلك، وليعرفه أنَّ التَّسليط في الدِّماء لا يسوغ في الدَّعوى، ولا يكون إلَّا بحُكْمٍ من الله تعالى؛ ليرفع أمر الجاهليَّة.
          وقال الكِرمانيُّ: معنى قوله قولاً؛ أي: كلاماً لا يليق به نحو ما يدلُّ على عجب النَّفس والنَّخوة والغيرة، وعدم الحوالة إلى إرادة الله تعالى وحوله وقوَّته، وقال الحافظُ العسقلاني: وكل ذلك بمعزل عن الواقع، وإنَّما المراد بقول عاصم ما تقدَّم في حديث سهل بن سعد، أنَّه سأل عن الحُكْمِ الذي أمره عُويمر أن يسأل عنه؛ لأنَّه تبيَّن أنَّ حديثي سهل بن سعد وابن عبَّاس ♥ من رواية القاسم بن محمد عنه في قصَّة واحدة، بخلاف رواية عِكرمة عن ابن عبَّاس ☻ ؛ فإنَّها في قصَّة أخرى.
          كما تقدَّم في «تفسير النُّور» [خ¦4747] عن ابن عبد البر: أنَّ القاسم روى قصَّة اللِّعان، عن ابن عبَّاس ☻ ، كما رواه سهل بن سعد وغيره في أنَّ الملاعن عُويمر، وقد تقدَّم توجيهه هناك. وعلى هذا فالقولُ المبهم عن عاصم في رواية القاسم هذه هو قوله: أرأيتَ رجلاً وَجَدَ مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه. الحديث.
          ولا مانع أن يروي ابن عبَّاس ☻ القصَّتين معاً، ويؤيد التَّعدد: اختلافُ السِّياقين وخلوُّ أحدِهما عمَّا وقع في الآخر، وما وقع بين القصَّتين من المغايرة، كما سيجيء. انتهى.
          وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّه ليس في كلام الكِرمانيُّ ما هو بمعزل عن الواقع، لكنَّه لم يصرحْ فيه. /
          (ثُمَّ انْصَرَفَ) أي: عاصمُ بن عديٍّ من عندِ رسولِ الله صلعم (فَأَتَاهُ رَجُلٌ) هو: عُويمر (مِنْ قَوْمِهِ) لأنَّ كلاًّ منهما عجلاني، ولا يمكن أن يفسَّر ذلك الرَّجل بهلال بن أمية؛ لأنَّه لا قرابة بينه وبين عاصم؛ لأنَّه هلال بن أميَّة بن عامر بن عبد قيس، من بني واقف، وهو مالك بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس، فلا يجتمع مع بني عَمرو بن عوف الذي ينتمي عاصم إلى حِلفهم إلَّا في مالك بن الأوس؛ لأنَّ عَمرو بن عوف هو: ابنُ مالك.
          (يَشْكُو إِلَيْهِ) أي: إلى عاصم (أَنَّهُ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ) خولة (رَجُلاً، فَقَالَ عَاصِمٌ: مَا ابْتُلِيتُ بِهَذَا) وفي رواية أبي ذرٍّ: <بهذا الأمر> وهو على البناء للمفعول (إِلاَّ لِقَوْلِي) أي: لسؤالي عمَّا لم يقعْ، كأنَّه قال: فعُوقبتُ بوقوع ذلك في آل بيتي، وذلك لكون عُويمر بن عَمرو كانت تحتَه بنتُ عاصم، أو بنت أخيه، فلذلك أضاف ذلك إلى نفسه بقوله: ما ابتليتُ. وفي مرسل مقاتل بن أبي حيَّان عند ابنِ أبي حاتم: فقال عاصم: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، هذا، والله لسؤالي عن هذا الأمر بين النَّاس فابتليتُ به.
          وقال الدَّاودي: إنَّ معناه، أنَّه قال مثلاً: لو وجدتُ أحداً يفعلُ ذلك لقتلته، أو عيَّر أحداً بذلك فابتُليَ به(1) .
          وقال الحافظُ العسقلاني: إنَّ هذا بمعزلٍ عن الواقع، إذ الذي كان قال: لو رأيتُه لضربتُه بالسَّيف هو سعدُ بن عبادة، كما تقدَّم في باب الغيرة [خ¦5220]، وقد أورد الطَّبري من طريق أيُّوب، عن عكرمة مرسلاً، ووصله ابنُ مردويه: يُذْكَرُ عن ابن عبَّاس ☻ ، قال: لما نزلتْ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:4] قال سعد بن عبادة: إن أنا رأيت لكاع بفخذها رجلٌ، فذكر القصَّة، وفيه: ((فوالله ما لبثوا إلَّا يسيراً حتَّى جاء هلال بن أميَّة))، فذكر قصَّته، وهو عند أبي داود في رواية عباد بن منصور، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس ☻ ، فظهر أنَّ قولَ عاصمٍ كان في قصَّة عُويمر. وقولُ سعد بن عبادة كان في قصَّة هلال، فالكلامان مختلفان، وهو ممَّا يؤيِّد تعدُّد القصَّة.
          ويؤيِّد التعدُّد أيضاً: أنَّه وَقَعَ في آخر حديث ابن عبَّاس ☻ ، / عند الحاكم: قال ابن عبَّاس ☻ : فما كان بالمدينة أكثر غاشيةً منه. وعند أبي داود وغيره: قال عكرمة: وكان بعد ذلك أميراً على مِصْرٍ، وما يُدْعَى لأبيه، فهذا يدلُّ على أنَّ ولد الملاعنة عاش بعد النَّبي صلعم زماناً.
          وقوله: ((على مصر)) أي: من الأمصار، وظنَّ بعض المشايخ: أنَّه أراد مصر البلد المشهور فقال: فيه نظر؛ لأنَّ أمراء مصر معروفون معدودون ليس فيهم هذا. ووقع في حديث عبد الله بن جعفر، عن ابن مسعود في «الطَّبقات» أنَّ ولد الملاعنة عاش بعد ذلك سنين ومات، فهذا ممَّا يقوِّي التَّعدد.
          (فَذَهَبَ بِهِ) أي: فذهبَ عاصمٌ بعُويمر (إِلَى النَّبِيِّ صلعم فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ) خولة من خلوتها بالرَّجل الأجنبي (وَكَانَ) بالواو، وفي رواية أبي الوقت: <فكان> بالفاء (ذَلِكَ الرَّجُلُ) أي: الذي رمى امرأته به (مُصْفَرًّا) بتشديد الراء، من الاصفرار؛ أي: قوي الصُّفْرة، وهذا لا يخالف قوله في حديث سهل: إنَّه كان أحمر أو أشقر؛ لأنَّ ذلك لونَه الأصليَّ، والصُّفرة عارضة (قَلِيلَ اللَّحْمِ) أي: نحيف الجسم (سَبطَ الشَّعَرِ) بفتح السين المهملة وكسر الموحدة وإسكانها، وهو ضد الجُعودة؛ أي: مسترسلاً غير جعد (وَكَانَ الَّذِي ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ خَدْلاً) بفتح الخاء المعجمة وإسكان الدال وتخفيف اللام، وهو الممتلئ السَّاق الضَّخم. قال ابنُ الفارس: ممتلئ الأعضاء، وقال الطَّبري: لا يكون إلَّا مع غلظ العظم مع اللَّحم.
          وقال ابن التِّين: ضُبِطَ في بعض الكتب: بكسر الدال وتخفيف اللام، وفي بعضها: بتشديد اللام، وفي بعضها: بسكون الدال، وكذلك هو في كتب اللُّغة، وكذا ضُبِطَ في رواية أبي صالح وابن يوسف.
          (آدَمَ) بمدِّ الهمزة، من الأُدمة وهي السُّمرة (كَثِيرَ اللَّحْمِ) أي: في جميع جسدِه يحتمل أن تكون صفة شارحة لقوله: خَدْلاً بناء على أنَّ الخدل: الممتلئ البدن. وأمَّا على قول من قال: إنَّه الممتلئ السَّاق فيكون فيه تعميم بعد تخصيصٍ، وزاد في رواية سليمان بن بلال الآتية [خ¦5316]: ((جعداً قططاً))، وقد تقدَّم تفسيره في شرح حديث سهل قريباً [خ¦4745]، وهذه الصِّفة موافقة للتي في حديث سهل بن سعد، حيث قال فيه: ((عظيم الإليتين خَدَلَّجَ السَّاقين... إلى آخره)).
          (فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم / اللَّهُمَّ بَيِّنْ) لنا؛ أي: حكم المسألة، ويقال: معناه: الحرص على أن يَعْلَمَ من باطنِ المسألة ما يقف به على حقيقتها، وإن كانت شريعته قد أحكمها الله في القضاء بالظَّاهر، وإنَّما صارت شرائع الأنبياء ‰ يُقْضَى فيها بالظَّاهر؛ لأنَّها تكون تبييناً لمن بعدهم من أممهم مِمَّنْ لا سبيلَ له إلى وَحْيٍ يُعْلَمُ به بواطنُ الأمور.
          (فَجَاءَتْ شَبِيهاً) أي: ولدت ولداً شبيهاً، وفي رواية سليمان بن بلال: ((فوضعت)) (بِالرَّجُلِ الَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَهُ) معها (فَلاَعَنَ النَّبِيُّ صلعم بَيْنَهُمَا) قيل: اللِّعان مقدَّم على وضع الولد، فعلام عطف قوله: فلاعن؟ وأُجيب: بأنَّ المرادَ منه فحكم بمقتضى اللِّعان.
          وقال الحافظُ العسقلاني: ظاهره أنَّ الملاعنةَ بينهما تأخرت حتَّى وضعت، فيُحْمَلُ على أنَّ قوله: فلاعن مُعَقَّبٌ بقوله: فذهب به إلى النَّبي صلعم فأخبره بالذي وَجَدَ عليه امرأته.
          واعَتَرَضَ قوله: وكان ذلك الرَّجل، إلى آخره، والحامل على ذلك: أنَّ رواية القاسم هذه موافقة لحديثِ سهل بن سعد.
          (فَقَالَ رَجُلٌ) هو: عبدُ الله بن شداد بن الهاد، وهو: ابنُ خالة ابن عبَّاس ☻ ، ذكره البُخاري في كتاب المحاربين [خ¦6855] (لاِبْنِ عَبَّاسٍ) ☻ (فِي الْمَجْلِسِ: هِيَ) أي: هذه المرأة هي (الَّتِي قَالَ النَّبِيُّ صلعم : لَوْ رَجَمْتُ أَحَداً بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، لرَجَمْتُ هَذِهِ) أراد به امرأة عُويمر، يعني: إنَّما لاعن بينها وبين زوجها، ولم يرجُمْها بالشَّبه؛ لأنَّ الرَّجم لا يكون إلَّا ببينة (فَقَالَ) أي: ابن عبَّاس ☻ (لاَ تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُظْهِرُ فِي الإِسْلاَمِ السُّوءَ) وأراد بالسُّوء: الفاحشة، ولكن لم يثبت عنها ذلك ببينة، ولا اعتراف، ولم يُسَمِّها. قال الدَّاودي: فيه جوازُ الغيبة فيمن يُظْهِرُ السُّوءَ، وفي الحديث: ((لا غيبةَ لمجاهر)).
          (قَالَ أَبُو صَالِحٍ) وفي بعض النُّسخ عن أبي ذرٍّ: <وقال لنا أبو صالح>، هو: عبدُ الله بن صالح الجهني، بالجيم والهاء والنون، وهو كاتب اللَّيث بن سعد (وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ) التِّنِّيْسي، بكسر المثناة الفوقية وتشديد النون المكسورة وسكون / الياء وبالسين المهملة، نسبة إلى تنيس بلدة كانت في جزيرة في وسط بُحَيرةٍ بالقُرْبِ من دمياط وخَرَبَتْ وبَادَتْ (خَدْلاً) بفتح الخاء المعجمة وسكون الدال، ويقال: بفتحها مخففاً في الوجهين وبالسُّكون، ذكره أهل اللُّغة. وقال الكرمانيُّ: هما قالا: «آدم خَدلاً»، بدون ذكر: «كثير اللَّحم».
          قال العينيُّ: ورواية عبد الله بن يوسف أخرجها البُخاري في كتاب المحاربين [خ¦5316]، ولفظه: ((وجده عند أهله آدم خَدلاً كثير اللَّحم)). فالذي قاله الكِرمانيُّ يخالف هذه، وإنَّما قال ذلك بالتَّخمين، بل المراد أنَّ في روايتهما: خَدِلاً، بفتح الخاء وكسر الدال، وفي الرِّواية المتقدِّمة: ((خدْلاً)) بسكون الدال. انتهى.
          وقال الإمام القسطلانيُّ: رواية أبي صالح أخرجها المؤلِّف في «المحاربين» [خ¦6856]، ورواية عبد الله بن يوسف أخرجها في «الحدود» [خ¦6856]، فافهم.
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرةٌ. وقد أخرجه المؤلِّف في المحاربين [خ¦6856] والطَّلاق [خ¦5310]، وأخرجه مسلم في اللِّعان، والنَّسائي في الطَّلاق والرَّجم.


[1] في هامش الأصل: وذكر ابن سيرين: عير رجلاً بغلس ثم ندم وانتظر العقوبة أربعين سنة ثم نزل به. منه.