نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: اجتنبوا السبع الموبقات

          2766- (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن يحيى، أبو القاسم القرشي العامري الأويسي قال: (حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ) أبو أيوب القرشي التَّيمي (عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ) بلفظ الحيوان المشهور الدُّئلي (عَنْ أَبِي الْغَيْثِ) مرادف المطر، واسمه: سالم مولى ابن مطيع القرشي (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺، عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه (قَالَ: اجْتَنِبُوا) أي: ابتعدوا من الاجتناب، من باب الافتعال، من الجنب، وهو أبلغ من ابتعدوا، ونحوه قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء:32] لأنَّ نهي القربان أبلغ من نهي المباشرة (السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ) أي المهلكات، وهي جمع: موبقة، من أوبق، وثلاثيه وَبَق يَبِق وُبُوقاً، إذا هلك من باب ضَرَبَ يَضْرِبُ، وجاء أيضاً: وَبِق يَوْبَق وَبَقاً، من باب عَلِمَ يَعْلَم، وجاء من باب فَعِل يَفْعِلُ بالكسر فيهما.
          (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ) أي: أحدها الشِّرك بالله، والشِّرك جَعْلُ أَحَدٍ شريكاً للآخر، والمراد هنا: اتِّخاذ إلهٍ غير الله (وَالسِّحْرُ) أي: والثَّاني السِّحر، وهو في اللغة صرف الشَّيء عن وجهه. وقال الجوهري: السِّحر الأخذة، وكلُّ ما لَطُفَ مأخذه ودَقَّ فهو سحرٌ، وقد سَحَرَه يَسْحَرُه سِحْراً، والسَّاحر: العالم بالسِّحر، وسحره أيضاً بمعنى خَدَعَه.
          قال القاضي: والمراد بالسِّحر: ما يستعان في تحصيله بالتَّقرب إلى الشَّيطان ممَّا لا يستقلُّ به الإنسان وذلك لا يستتب؛ أي: لا يستقيم إلَّا لمن يناسبه في الشَّر وخبث النَّفس، فإنَّ التَّناسب شرط في التَّضام والتَّعاون، وبهذا يُمَيَّزُ السَّاحر من النَّبي.
          وأمَّا ما يتعجب منه كما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات والأدوية، أو يريه صاحب خفَّة اليد فغير مذمومٍ، وتسميته سحراً على التَّجوز. انتهى.
          وقال ابن الكمال: السِّحر: مزاولة النفوس الخبيثة لأفعالٍ وأقوالٍ يترتَّب عليها أمور خارقة للعادة، ولا يُرْوَى خِلافٌ في كَوْن العمل به كفراً، وعدُّه نوعاً من الكبائر مغاير للإشراك لا ينافي ذلك؛ لأنَّ الكفر أعمُّ، والإشراك نوعٌ منه.
          وهو في أصل اللغة الصَّرف، حكاه الأزهري عن الفرَّاء ويونس، فإطلاقه على ما يفعله أصحاب الحِيَلِ بمعونة الآلات والأدوية وصاحب خفَّة اليد باعتبار ما فيه من صرف الشَّيء عن جهته حقيقة لغوية.
          هذا، وقال الإمام أبو منصور: والأصحُّ أن يقال: إنَّ القول بأنَّ السِّحر على الإطلاق كفر، خطأ، بل السِّحر على نوعين: نوعٌ هو كفر، وهو ما يتضمَّن إنكار ركن من أركان الإسلام وردِّه، ونوعٌ ليس بكفرٍ، وهو ما يتحقَّق بدون ارتكاب شيءٍ من الكفر.
          ثمَّ السِّحر الذي هو كفر يقتل به الذُّكور دون الإناث؛ لأنَّ كفر المسلم ارتدادٌ منه، والمرتدُّ يُستتاب فإن أصرَّ قتل، وارتداد الأنثى لا يوجب القتل، ويقتل به الذُّكور والإناث إذا قتل بالسِّحر؛ لأنَّه حينئذٍ يصير ساعياً في الأرض بفساد فيقتل كقطَّاع الطَّريق، كذا ذكره ابن الشَّيخ في «حاشية البيضاوي». وذكر أبو عبد الله الرَّازي أنَّ أنواعَ السِّحرِ ثمانيةٌ:
          الأول: سحرُ الكُلْدنيِّين والكُشْدَانِيِّين الذين كانوا يعبدون الكواكب السَّبعة السيَّارة، وكانوا يعتقدون أنَّها مدبرة للعالم، وأنَّها تأتي بالخير والشَّر، وهم الذين بعث الله تعالى إبراهيم الخليل ◙ مبطلاً لمقالتهم وراداً لمذاهبهم.
          الثَّاني: سِحْرُ أصحاب الأوهام والنُّفوس الخبيثة.
          الثَّالث: الاستعانة بالأرواح الأرضية وهم الجن؛ خلافاً للفلاسفة والمعتزلة، وهم على قسمين: مؤمنون وكفار، وهم الشَّياطين، وهذا النَّوع يحصل بأعمال من الرقى / والدَّخَن، وهذا النَّوع المسمى بالعزائم وعمل التَّسخير.
          والرَّابع: التَّخيلات والأخذ بالعيون والشَّعوذة، وقد قال بعض المفسِّرين: إنَّ سحر السَّحرة بين يدي فرعون إنَّما كان من باب الشَّعبذة.
          الخامس: الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركبة.
          السَّادس: الاستعانة بخواص الأدوية؛ يعني: في الأطعمة والدِّهَانات.
          السَّابع: تعلُّق القلب وهو أن يدعي السَّاحر أنَّه عرف الاسم الأعظم وأنَّ الجنَّ يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور.
          الثَّامن: من السِّحر السعي بالنَّميمة بالتَّصريف من وجوه خفية لطيفة وذلك شائع في النَّاس، وإنَّما أدخل كثير من هذه الأنواع المذكورة في فنِّ السِّحر؛ للطافة مداركها لكونه يقع خفياً، والسِّحر أيضاً الرِّئة وهي محلُّ الغذاء، وسمِّيت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن.
          هذا وقد ذكر الوزير أبو المظفر يحيى بن محمَّد بن هبيرة في كتابه «الإشراف على مذاهب الأشراف» أجمعوا على أنَّ السِّحر له حقيقة إلَّا أبا حنيفة فإنَّه قال: لا حقيقة له.
          وقال القرطبيُّ: وعندنا أنَّ السِّحر له حقيقة يخلق الله عنده ما شاء، خلافاً للمعتزلة وأبي إسحاق الإسفرائيني من الشَّافعية حيث قالوا: إنَّه تمويهٌ وتخيل قال: ومن السِّحر ما يكون بخفَّة اليد كالشَّعوذة، والشعوذي كالبريد بخفة السَّير، وقال ابن فارس: وليست هذه الكلمة من كلام أهل البادية.
          قال القرطبيُّ: ومنه ما يكون كلاماً يُحْفَظ ورقى من أسماء الله تعالى، وقد يكون من عهود الشَّياطين، ويكون أدويةً وأدخنةً وغير ذلك.
          وقال الرَّازي في «تفسيره» عن المعتزلة: إنَّهم أنكروا وجود السِّحر قال: وربَّما أكفروا من اعتقد وجوده، قال: وأمَّا أهل السنَّة فقد جوَّزوا أن يقدر السَّاحر أن يطيرَ في الهواء وأن يقلبَ الإنسانَ حماراً والحمار إنساناً، إلَّا أنَّهم قالوا: إن الله يخلق الأشياء عندما يقول السَّاحر تلك الرُّقى والكلمات المعيَّنة، فأمَّا أن يكون المؤثر في ذلك هو الفلك والنُّجوم فلا، / خلافاً للفلاسفة والمنجمين والصَّابئة.
          ثمَّ استدلَّ على وقوع السِّحر وأنَّه بخلق الله بقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]، ومن الأخبار: أنَّ رسول الله صلعم سُحر وأنَّ السِّحر عمل فيه.
          ثمَّ إنَّه هل يجوز تعلُّم السِّحر أو لا؟ فقال الرَّازي: إنَّ العلم بالسِّحر ليس بقبيحٍ ولا مَحْظور، اتَّفق المحققون على ذلك، فإنَّ العلم لذاته شريفٌ، ولأنَّه لو لم يُعْلَمْ ما أَمْكَنَ الفرقُ بينه وبين المعجزة، والعِلْمُ بِكَون المُعْجِزِ مُعْجِزاً واجبٌ، وما يُتَوقَّفُ عليه الواجبُ فهو واجبٌ، فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسِّحر واجباً وما يكون واجباً كيف يكون حراماً وقبيحاً، هذا لفظه بحروفه في هذه المسألة.
          قال العينيُّ: وفيه نظرٌ من وجوه:
          الأول: أنَّ قوله: العلم بالسِّحر ليس بقبيحٍ، إن عنى به ليس بقبيحٍ عقلاً، فمخالفوه من المعتزلة يمنعون ذلك، وإن عنى ليس بقبيحٍ شرعاً، ففي قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} [البقرة:102] الآية تبشيع لتعلم السِّحر. وفي «الصحيح»: ((من أتى عرَّافاً أو كاهناً فقد كفر بما أُنْزِلَ على محمد))، وفي «السنن»: ((من عقد عقدةً ونفث فيها فقد سحر)) فتدبَّر.
          الثَّاني: أنَّ قولَه: ولا محظور اتَّفق المحققون على ذلك، ممنوعٌ، وكيف لا يكون محظوراً مع ما ذكر من الآية والحديث، والمحقِّقون هم علماء الشَّريعة، وأين نصوصهم على ذلك؟
          الثَّالث: أنَّ قوله: ولأنَّه لو لم يعلم إلخ، كلامٌ فاسد؛ لأنَّ أعظم معجزات رسولنا صلعم القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيم حميد.
          الرَّابع: أنَّ قوله: والعلمُ بكون المعجز معجزاً واجب، مُسَلِّمٌ، لكنْ لا يَتَوقَّفُ هذا العلمُ على عِلْمِ السِّحر أصلاً. ثمَّ من المعلوم بالضَّرورة أنَّ الصَّحابة والتَّابعين وأئمَّة المسلمين وعامَّتهم كانوا يعلمون المعجز ويفرِّقون بينه وبين غيره ولم يكونوا يعلمون السِّحر ولا تعلَّموه ولا علَّموه، والذي نصَّ عليه العلماء والفقهاء: أن تعلُّم السِّحر وتعليمه من الكبائر. وفي «التلويح»: وقال بعضُ أصحاب الشَّافعي تَعَلُّمُه ليس بحرامٍ بل يجوز ليُعْرَفْ ويردُّ / على فاعله ويميز عن الكرامة للأولياء.
          وقال العينيُّ: الظَّاهر أنَّ مراده من بعض أصحاب الشَّافعي: الرازي، وقد ورد عليه ما ورد، ومنهم الغزالي. ثمَّ إنَّهم اختلفوا فيمن يتعلم السِّحر ويستعمله؛ فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يكفر بذلك. وعن بعض الحنفية: إنْ تعلَّمه ليتقيه أو ليجتنبه فلا يكفر، ومن تعلَّمه معتقداً جوازه وأنَّه ينفعه كفرَ، وكذا من اعتقد أنَّ الشَّياطين تفعلُ له ما يشاء فهو كافرٌ.
          وقال الشَّافعي: إذا تعلَّم السِّحر قلنا له: صف سحرك، فإنْ وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقد أهل بابل من التَّقرب إلى الكواكب السَّبعة، وأنَّها تفعل ما يُلْتَمسُ منها فهو كافرٌ، وإن كان لا يوجب الكفر، فإن اعتقد إباحتَه فهو كافرٌ.
          ثمَّ إنَّه هل يُقْتل السَّاحر أم لا؟ قال ابنُ هبيرة: هل يقتل السَّاحر بمجرد فعله واستعماله فقال مالكٌ وأحمد: نعم. وقال الشَّافعي وأبو حنيفة: لا يُقْتل حتَّى يتكرَّر منه الفعل أو يقر بذلك في شخصٍ معينٍ، فإذا قتل فإنَّه يُقْتل حدًّا عندهم إلَّا الشَّافعي فإنَّه قال والحالة هذه: قصاصاً.
          وأمَّا ساحر أهل الكتاب فإنَّه يُقْتل عند أبي حنيفة كما يقتل السَّاحر المسلم، وقال الشَّافعي ومالك وأحمد: لا يقتل لقصَّة لبيد بن أعصم، واختلفوا في المسلمة السَّاحرة؛ فعند أبي حنيفة أنَّها لا تُقتل ولكن تُحْبَس، وقالت: الثَّلاثة حكمها حكم الرَّجل.
          وقال أبو بكر الخلال: أخبرنا أبو بكر المردوي قال: قرئ على أبي عبد الله؛ يعني: أحمد بن حنبل: حدَّثنا عمر بن هارون: حدَّثنا يونس، عن الزُّهري قال: يُقتل ساحر المسلمين ولا يُقتل ساحر المشركين؛ لأنَّ رسول الله صلعم سحرته امرأة من اليهود فلم يقتلها.
          وحكي عن مالك روايتان في الذِّمِّي إذا سحر أحداً إحداهما: يستتاب فإن أسلم وإلَّا قُتِل، والثَّانية: أنَّه يُقْتَلُ وإن أَسْلَم.
          ثمَّ إنَّه هل تُقْبَلُ توبةُ السَّاحر؟ فقال مالكٌ وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهما: لا تُقْبل، وقال الشَّافعي وأحمد في الرِّواية الأخرى: تُقْبل، / وعن مالكٍ: إذا ظُهِرَ عليه لم تُقْبل توبتُه كالزِّنديق، فإن تاب قبل أن يُظْهَرَ عليه وجاءنا تائباً قبلناهُ ولم نقتله فإن قَتَلَ بسحره قُتِل.
          وقال الشَّافعي: فإن قال: لم أتعمَّد القتل فهو مخطئٌ يجب عليه الدِّية، ثمَّ إنَّه هل يُسألُ السَّاحر حلَّ سحره، فأجازه سعيد بن المسيَّب فيما نقله عنه البخاري ثمَّ إنَّه قال عامر الشَّعبي: لا بأس بالنُّشرة، وكره ذلك الحسن البصري.
          وفي «الصحيح» عن عائشة ♦ قالت: يا رسول الله، هلَّا نشرت فقال: ((الله قد شفاني وخشيتُ أن أفتحَ على النَّاس شرًّا)).
          وحكى القرطبيُّ عن وهب قال: قد يؤخذ سبع ورقاتٍ من سِدْر فتُدَقُّ بين حجرين ثمَّ تُضْرَبُ بالماء ويُقْرأ عليها آية الكرسي ويَشْرَبُ منها المسحورُ ثلاث حسواتٍ، ثمَّ يغتسلُ بباقيه، فإنَّه يذهب ما به، وهو جيد للرَّجل الذي يؤخذ عن امرأته.
          هذا والنُّشرة _بضم النون_ ضربٌ من الرُّقية والعلاج يُعَالَجُ به من كان يُظَنُّ أنَّ به شيئاً من الجن، سمِّيت نشرة؛ لأنَّه يُنْشَرُ بها عنه ما خامره من الدَّاء؛ أي: يُكْشَفُ ويُزَال.
          (وَقَتْلُ الْنَّفسِ) أي: والثَّالث من السَّبع الموبقات قتل النَّفس (الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَ) الرَّابع منها (أَكْلُ الرِّبَا) وهو فضلُ مالٍ بلا عوض في معاوضة مالٍ بمالٍ، كما عرف في الفقه (وَ) الخامس منها (أَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ) وقد عرفت أنَّه في اللغة بمعنى المنفرد، وفي عرف الشَّرع: من مات أبوه وهو دون البلوغ، وفي البهائم: ما ماتت أمه (وَ) السَّادس منها: (التَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ) أي: الفرار عن القتال يوم ازدحام الطَّائفتين، ويقال: التَّولي: الإعراض عن الحرب، والفرار من الكفار إذا كان بإزاء كلِّ مسلمٍ كافران، وإن كان بإزاء كلِّ مسلمٍ أكثر من كافرين يجوز الفرار.
          والزَّحف: الجماعة الذين يزحفون إلى العدوِّ؛ أي: يمشون إليهم بمشقَّة، من زَحَفَ الصَّبيُّ إذا دبَّ على أسته.
          (وَ) السَّابع منها (قَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ) القذف: الرَّمي البعيد، استُعير للشَّتم / والغيبة والبُهتان، كما استعير لمطلق الرَّمي، والمحصنات: جمع محصَنة، بفتح الصاد، اسم مفعول؛ أي: التي أحصنها الله تعالى وحفظها من الزِّنا (الْمُؤْمِنَاتِ) احترز به عن قذف الكافرات فإن قذفهنَّ ليس من الكبائر، وإن كانت ذمِّيةً فقذفها من الصَّغائر لا يوجب الحدَّ، وفي قذف الأَمَةِ المُسْلمة التَّعزير دون الحدِّ (الْغَافِلاَتِ) كناية عن البريئات؛ لأنَّ البريء غافلٌ عمَّا بهت به من الزِّنا، والإحصان في الشَّرع يُطلق ما يجمع الأشياء الخمسة: العقل، والإسلام، والحرية، والتَّزوج، والعفَّة، فإذا فقد واحدٌ منها لا يكون محصناً، فعلى هذا يكون قوله: ((المؤمنات الغافلات)) من باب التَّأكيد، والله تعالى أعلم.
          ثمَّ إنَّ ذكر السَّبع في الحديث لا ينافي أن يكون كبيرةً غيرها، فقد ذكر في هذا الحديث: قول الزُّور، وزنا الرَّجل بحليلة جاره، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، واستحلال بيت الله، ومسك امرأةٍ محصنة لمن يزني، ومسك مسلمٍ لمن يقتله، ودلالة الكفار على المسلمين مع علمه أنَّهم يُسْتأصَلون بدَلالته ويُسْبون ويغنمون، والحكم بغير حقٍّ، والإصرار على الصَّغيرة.
          وقال الشَّافعي: وأكبرها بعد الإشراك: القتل.
          وادَّعى بعضهم أنَّ الكبائر سبع كأنَّه أخذ من ذلك الحديث، وقال بعضهم: إحدى عشرة. وقال ابن عبَّاس ☻ : إلى السَّبعين أقرب، وروي عنه: إلى سبعمائة، والتَّحقيق أنَّ التَّنصيص على عددٍ لا ينفي الزِّيادة.
          فأمَّا تعيين السَّبع هنا فلاحتمال أن يكون أعلم الشَّارع بها في ذلك الوقت، ثمَّ أوحى إليه بعد ذلك غيرها، أو هذه السَّبع هي التي دعت إليها الحاجة في ذلك الوقت، وكذا القول في كلِّ حديثٍ خصَّ عدداً من الأعداد.
          ثمَّ إنَّ الموبقات التي هي الكبائر لا بدَّ من مقابلتها الصَّغائر فلا بدَّ من الفرق بينهما.
          فقال الشَّيخ عز الدين بن عبد السَّلام: إذا أردت معرفة الفرق بين الصَّغيرة والكبيرة فاعرض مفسدة الذَّنب / على مفاسد الكبائر المنصوص عليها، فإن نقصتْ عن أقلِّ مفاسد الكبائر فهي من الصَّغائر، وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو أَرْبَت عليها فهي من الكبائر، فمن شتم الرَّب ╡، أو رسوله صلعم ، أو استهان بالرُّسل، أو كذَّب واحداً منهم، أو وسخ الكعبة المشرَّفة بالعذرة، أو ألقى المصحف في القاذورات، فهي من أكبر الكبائر ولم يصرَّح بذكرها.
          وقال بعضُهم: كلُّ ذنبٍ قُرِنَ به وعيدٌ أو حدٌّ أو لَعْنٌ فهو كبيرةٌ، وروي هذا عن الحسن أيضاً، وقيل: الكبيرة ما يشعر بتهاون مرتكبها في دينه.
          وعن ابن مسعود ☺: الكبائر جميعُ ما نهى الله عنه من أول سورة النِّساء إلى قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء:31]. وعن ابن عبَّاس ☻ : كلُّ ما نهى الله عنه فهي كبيرةٌ، وبه قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني وغيره. وعن القاضي عياض: هذا مذهب المحقِّقين؛ لأنَّ كل مخالفة فهي بالنِّسبة إلى جلال الله ╡ كبيرة.
          قال القرطبي: وما أظنُّه صحيحاً عنه؛ أي: عن ابن عبَّاس ☻ يعني: عدم التَّفرقة بين الصَّغيرة والكبيرة فإنَّه قد فرق بينهما في قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء:31]، و{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32]، فجعل من المنهيات كبائر وصغائر، وفرق بينهما في الحكم لمَّا جَعَل تكفير السَّيئات [في الآية مشروطاً باجتنباب الكبائر] (1)، واستثنى اللَّمم من الكبائر والفواحش فكيف يخفى مثل هذا الفرق على حَبر القرآن، فالرِّواية عنه لا تصحُّ، والمشهور انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر، والله تعالى أعلم.
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة في قوله: ((وأكل مال اليتيم))، وقد أخرجه المؤلِّف في الطب [خ¦5764] وفي المحاربين أيضاً [خ¦6857]، وأخرجه مسلم في الإيمان، وأبو داود في الوصايا، والنَّسائي فيه وفي التفسير.


[1] كذا في عمدة القاري.