نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته

          1059- (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ) أي: ابن كُريب الهَمْداني الكوفي (قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ) حمَّاد بن زيد القرشي الكوفي (عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بضم الموحدة وفتح الراء، هو: ابن عبد الله بن أبي بُردة بن أبي موسى الأشعري الكوفي.
          (عَنْ) جدِّه (أَبِي بُرْدَةَ) الحارث بن أبي موسى، ويقال: عامر بن أبي موسى، ويقال: اسمه كنيته (عَنْ أَبِي مُوسَى) عبد الله بن قيس الأشعري ☺.
          ورجال إسناد الحديث كوفيون، وفيه: ثلاثة مكيُّون، وفيه: رواية الرَّجل عن جدِّه، وجدِّه عن أبيه. وقد أخرجه مسلم، والنَّسائي أيضاً.
          (قَالَ: خَسَفَتِ) بفتح الخاء والسين (الشَّمْسُ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلعم فَزِعاً) بكسر الزاي صفة مشبَّهة، ويجوز أن يكون _بفتح الزاي_ على أن يكون مصدراً بمعنى الصِّفة أو مفعول مطلق لمقدر (1) (يَخْشَى) في محل النصب على الحاليَّة (أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ) بالرفع على أن تكون تامَّة؛ أي: أن تحضر السَّاعة وتوجد، وبالنصب على أن «تكون» ناقصة، والضَّمير الذي فيه يرجع إلى الخسفة المستفادة من قوله: ((خسفت))، والمعنى: يخشى أن تكون علامة حضورها.
          قال النَّووي: قد استشكل هذا من حيث إنَّ السَّاعة لها مقدِّمات كثيرة لا بدَّ من وقوعها كطلوع الشَّمس من مغربها، وخروج الدَّابة، والدَّجال، وغير ذلك، فكيف الخشية من قيامها حينئذٍ؟
          ويجاب: بأنَّه لعلَّ هذا الكسوف كان قبل أن يُعلمه الله تعالى بهذه العلامات، أو لعله خشي أن تكون بعض مقدِّماتها، أو أنَّ الرَّاوي ظنَّ أنَّ النَّبي صلعم خشي أن تكون السَّاعة، وليس يلزم / من ظنَّه أنَّه صلعم خشي ذلك حقيقة، بل ربَّما خاف وقوع عذاب الأمَّة، فظنَّ الرَّاوي ذلك.
          وأنت خبير: بأنَّ كل واحد من هذه الأجوبة محلُّ نظر:
          أمَّا الأوَّل: فلأنَّ قصَّة الكسوف متأخِّرة جدًّا، فقد تقدَّم أنَّ موت إبراهيم ابن النَّبي صلعم كان في العاشرة كما اتَّفق عليه أهل الأخبار، وقد أخبر النَّبي صلعم بكثير من الأشراط والحوادث قبل ذلك.
          وأمَّا الثَّاني، والثَّالث: فأمرهما ظاهر.
          والأوجه في ذلك: ما قاله الكرماني من أنَّه تمثيل من الرَّاوي كأنَّه قال فزعاً كالخاشي أن تكون السَّاعة، وإلَّا فكان النَّبي صلعم عالماً بأنَّ السَّاعة لا تقوم، وهو بين أظهرهم، وقد وعده الله تعالى بإعلاء دينه على الأديان كلِّها، ولم يبلغ الكتاب أجله.
          ويمكن أن يُقال: إنَّه صلعم جعل ما سيقع كالواقع إظهاراً لتعظيم شأن الكسوف، وتنبيهاً لأمَّته أنَّه إذا وقع لهم ذلك بعده كيف يخشون ويفزعون إلى ذكر الله، والصَّلاة، والصَّدقة ليدفع عنهم البلايا؟
          (فَأَتَى الْمَسْجِدَ، فَصَلَّى بِأَطْوَلِ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ رَأَيْتُهُ قَطُّ يَفْعَلُهُ) بدون كلمة «ما»، وكلمة «قط» لا تقع إلَّا بعد الماضي المنفي، فحرف النَّفي هنا مقدر؛ أي: ما رأيته قط يفعله كما في قوله تعالى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} [يوسف:85] ؛ أي: لا تفتؤ ولا تزال تذكره تفجُّعاً، مع أنَّ في كثير من النُّسخ وقع <ما رأيته قط يفعله>. ويجوز أن يقال: إنَّ «أطول» فيه عدم المساواة؛ أي: بما لم يساوِ قط قياماً رأيته يفعله.
          ويمكن أن يقال: إنَّ «قط» بمعنى حسب؛ أي: صلَّى في ذلك اليوم فحسب بأطول قيام رأيته يفعله، أو يقال: إنَّه بمعنى أبداً. وينبغي أن تكون لفظة قط إذا كانت بمعنى حسب _بفتح القاف وسكون الطاء_ وأمَّا إذا كان على بابه فهو _بفتح القاف وضمها وتشديد الطاء وتخفيفها وبفتحها وكسر الطاء المخففة_.
          قيل: وموضع «رأيته» جر على الصِّفة إمَّا للمعطوف الأخير، وهو «سجود»، وإمَّا للمعطوف عليه الأول، وهو «قيام»، وحذف «رأيته» من الأوَّل الذي هو القيام؛ لدلالة الثَّاني عليه وبالعكس، وذلك لأنَّه ليس في هذا الجملة إلا ضمير الواحد المذكَّر. وقد تقدَّم ثلاثة أشياء فلا تصلح من حيث هي ثلاثة أن تكون مرجعاً له.
          ويحتمل عود الضَّمير إلى النَّبي صلعم ، كما أن فاعل «يفعله» يعود إليه صلعم . ويحتمل أن يعود إلى ما عاد إليه المنصوب من «يفعله».
          وأمَّا جعل الجملة صفة لـ«أطول» حتَّى لا يحتاج إلى الحذف حينئذٍ، إذ «أطول» مفرد / مذكَّر يصح عود ضمير المذكر إليه؛ ففيه أنَّه يلزم أن يكون المعنى أنَّه فعل في قيام الصَّلاة لكسوف الشَّمس وركوعها وسجودها مثل أطول شيء كان يفعله في ذلك في غيرها من الصَّلوات، ولم يفعل طولاً زائداً على ما عُهِد منه في سواها.
          وليس كذلك، اللَّهم إلَّا أن يكون صلى قبل هذه المرَّة لكسوف آخر فيصدق حينئذٍ أنَّه فعل مثل أطول ما كان يفعله، لكنَّه يحتاج إلى دليل يُثبته.
          نعم. في أوائل «الثِّقات» لابن حبَّان: الشَّمس كسفت في السَّنة السَّادسة فصلَّى صلعم صلاة الكسوف، وقال: ((إن الشَّمس والقمر آيتان...)) الحديث، ثمَّ كسفت الشَّمس في السَّنة العاشرة يوم مات ابنه إبراهيم.
          (وَقَالَ) صلعم (هَذِهِ الآيَاتُ) التي تقع من كسوف النِّيرين، والزلزلة، وهبوب الرِّيح الشَّديدة، ونحوها (الَّتِي يُرْسِلُ اللَّهُ، لاَ تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلاَ لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنْ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ) أي: بالكسوف، وفي رواية: <بها> أي: بالآيات (عِبَادَهُ) قال الله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} [الإسراء:59].
          (فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ، فَافْزَعُوا) بفتح الزاي؛ أي: فالجئوا (إِلَى ذِكْرِهِ) وفي رواية: <إلى ذكر الله> (وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ) ويفهم من هذا الحديث: أنَّ المبادرة إلى الصَّلاة، والذِّكر، والدُّعاء، والاستغفار لا تختصُّ بالكسوفين، وبه قال أصحابنا. وحُكي ذلك عن أبي موسى.
          وقيل: لم يقع في هذه الرِّواية ذكر الصَّلاة، فلا حجَّة فيه لمن استحبَّها عند كلِّ آية.
          وفيه: أنَّ الصَّلاة يُطلق عليها ذكر الله؛ لأنَّ فيها أنواعاً من ذكر الله تعالى. وقد ورد ذلك في «صحيح مسلم»: ((إنَّ هذه الصَّلاة لا يصلح فيها شيء من كلام النَّاس إنَّما هي التَّسبيح، والتَّكبير، وقراءة القرآن)).
          وفي هذا الحديث أيضاً: دلالة على استحباب إطالة السُّجود، ولا يضرُّ كون أكثر الرِّوايات ليس فيها تطويله؛ لأنَّ الزِّيادة من الثِّقة مقبولة.


[1] ((أو مفعول مطلق لمقدر)): ليس في (خ).