نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: يموت عبد الله وهو آخذ بالعروة الوثقى

          7010- (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِي) بضمّ الجيم وسكون العين المهملة وكسر الفاء، المعروف بالمسندي نسبة إلى جعفي بن سعد العشيرة من مذحج، وقال الجوهري: أبو قبيلة من اليمن والنّسبة إليه كذلك، قال: (حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ) بفتح الحاء المهملة والرّاء وكسر الميم وبياء النّسبة وهو اسمٌ بلفظ النّسب، وعُمَارة _بضمّ العين المهملة وتخفيف الميم_ قال: (حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ) بضمّ القاف وتشديد الراء، ابن خالد السَّدوسيّ.
          (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ) أنَّه (قَالَ: قَالَ قَيْسُ بْنُ عُبَادٍ) بضمّ العين المهملة وتخفيف الموحّدة آخره دال مهملة، البصريّ التَّابعيّ الكبير الثِّقة، له إدراكٌ، قدم المدينة في خلافة عمر ☺ ووهم من عدَّه من الصَّحابة، ومضى له حديثٌ آخر في ((تفسير سورة الحجِّ)) [خ¦4743] وفي غزوة بدرٍ أيضاً [خ¦3965]، وليس له في البخاريّ سوى هذين الحديثين. /
          (كُنْتُ فِي حَلْقَةٍ) بسكون اللّام ويجمع على حِلق _بكسر الحاء_ كقصعة وقصع، وقال الجوهريُّ: جمع الحلقة حَلق _بفتح الحاء_ على غير قياس (فِيهَا سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ) يعني: سعد بن أبي وقَّاصٍ ☺ (وَابْنُ عُمَرَ) عبد الله ☻ (فَمَرَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ) بتخفيف اللّام الإسرائيليّ، وفي رواية ابن عونٍ الماضية في ((المناقب)) [خ¦3813] بلفظ: ((كنت جالساً في مسجد المدينة فدخل رجلٌ على وجهه أثر الخشوع، فقالوا: هذا رجلٌ من أهل الجنَّة)) زاد مسلمٌ من هذا الوجه: ((كنت بالمدينة في ناسٍ فيهم بعض أصحابِ رسول الله صلعم فجاء رجلٌ في وجهه أثرٌ من خشوع)).
          (فَقَالُوا) في عبد الله بن سلام (هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) وفي رواية ابن عون عند مسلمٍ: ((فقال بعضُ القوم: هذا رجلٌ من أهل الجنَّة)) وكرَّرها ثلاثاً، وفي رواية خَرَشَة _بفتح الخاء المعجمة والرّاء والشّين المعجمة_ ابن الحُرِّ _بضمّ الحاء وتشديد الرّاء المهملتين_ الفزاريّ عند مسلم أيضاً: ((كنت جالساً في حلقةٍ في مسجد المدينة وفيها شيخٌ حَسنُ الهيئة، وهو: عبدُ الله بن سلام، فجعل يحدِّثهم حديثاً حسناً فلمَّا قام قال القوم: من سرَّه أن ينظرَ إلى رجلٍ من أهل الجنَّة فلينظر إلى هذا)).
          وفي رواية النَّسائيّ من هذا الوجه: ((فجاء شيخٌ يتوكَّأ على عصا له)) فذكر نحوه، ويجمع بينهما بأنَّهما قصَّتان اتَّفقتا لرجلين، فكأنَّه كان في مجلسٍ يتحدَّث كما في رواية خرشة: فلمَّا قام ذاهباً مرَّ على الحلقة الَّتي فيها سعد بن أبي وقَّاصٍ وابن عمر ♥ فحضرَ ذلك قيس بن عُبَاد كما في روايته، وكلٌّ من خرشة وقيس اتَّبع عبد الله بن سلامٍ ودخل عليه منزله وسأله فأجابه.
          ومن ثمَّة اختلف الجواب بالزِّيادة والنَّقص كما سنذكره سواءٌ كان اجتماعهما في زمنٍ واحدٍ أم لا، وإنَّما قالوا له ذلك؛ لأنَّهم سمعوا رسول الله صلعم يقول: ((إنَّه لا يزال متمسكاً بالإسلام حتَّى يموت))، وفي آخر الحديث: ((يموت عبدُ الله وهو آخذٌ بالعروة الوثقى)).
          قال قيسٌ: (فَقُلْتُ لَهُ) أي: لعبد الله بن سلام (إِنَّهُمْ قَالُوا كَذَا وَكَذَا، قَالَ) أي: ابن سلام متعجّباً من قولهم (سُبْحَانَ اللَّهِ، / مَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) وفي رواية ابن عون عند مسلمٍ زيادة ولفظه: ((ثمَّ خرج فاتَّبعته فدخل منزله ودخلت فتحدَّثنا، فلمَّا استأنس قلت له: إنَّك لمَّا دخلت قيل: قال رجلٌ كذا وكذا))، وكأنَّه نسب القول إلى الجماعة والنَّاطق به واحدٌ لرضاهم به وسكوتهم عليه.
          وفي رواية خَرَشة: فقلت: والله لأتبعنّه فلأعلمنَّ مكانته، فانطلق حتَّى كادَ يخرج من المدينة ثمَّ دخل منزله فاستأذنت عليه فأذن لي، فقال: ما حاجتك يا ابن أخي؟ فقلت: سمعت القوم يقولون، فذكر اللَّفظ الماضي، وفيه: فأعجبني أن أكون معك.
          وسقطت هذه القصَّة في رواية النَّسائيّ، وعنده: ((فلمَّا قضى صلاته، قلت: زعم هؤلاء قال: سبحان الله... إلى آخره))، ووقع في رواية خَرَشة عند مسلمٍ: ((فقال: الله أعلم بأهل الجنَّة، وسأحدِّثك ممَّا قالوا، فذكر المنام))، وإنَّما أنكر عبد الله بن سلام عليهم ما قالوه للتَّواضع وكراهة أن يشارَ إليه بالأصابع فيدخله العجب.
          وقال الكرمانيّ: الأولى أن يقال: إنَّما قاله لأنَّهم لم يسمعوا ذلك صريحاً بل قالوه استدلالاً واجتهاداً فهو في مشيئة الله تعالى، وقال الحافظ العَسقلانيّ: أنَّه أنكر عليهم الجزم ولم ينكر أصل الإخبار بأنَّه من أهل الجنَّة، ولذا ذكر المنام وهكذا يكون شأن المراقبين الخائفين المتواضعين. ووقع في رواية النَّسائيّ: ((الجنَّة لله يُدخلها من يشاء))، وزاد ابن ماجه من هذا الوجه: ((الحمد لله)).
          (إِنَّمَا رَأَيْتُ) أي: في المنام (كَأَنَّمَا عَمُودٌ وُضِعَ فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ) وفي رواية ابن عون: أنَّ العمود كان في وسط الرَّوضة ولم يذكر وصف الرَّوضة في هذه الرِّواية، وتقدَّم في المناقب من رواية ابن عون: ((رأيت كأنِّي في روضةٍ ذكر من سعتها وخضرتها)).
          قال الكرمانيُّ: يحتمل أن يرادَ بالرَّوضة جميع ما يتعلَّق بالدِّين، وبالعمود الأركان الخمسة، وبالعروة الوثقى الدّين. وفي «التَّوضيح»: والعمود دالٌّ على كلِّ ما يعتمدُ عليه كالقرآن والسُّنن والفقه في الدِّين، وكذلك العروة الإسلام والتَّوحيد وهي العروة الوثقى، قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]، فأخبر الشَّارع أنَّ ابن سلامٍ يموت على الإيمان / ولما في هذه الرُّؤيا من شواهد ذلك حكم له الصَّحابة بالجنَّة بحكم الشَّارع بموته على الإسلام.
          وقال الدَّاوديّ: قالوا: لأنَّه كان بدريًّا وسيأتي ما فيه، وفيه القطع بأن كلَّ من مات على الإسلام والتَّوحيد لله بالجنَّة وإن نالت بعضهم عقوبات.
          (فَنُصِبَ) بضمّ النّون وكسر الصّاد المهملة بعدها موحّدة؛ أي: العمود (فِيهَا) أي: في الرَّوضة من النَّصب وهو ضدُّ الخفض. وفي «المطالع»: وفي رواية العذريّ: <انتصب>، والأوَّل هو الصَّواب، وقال البرماويّ(1) : فينصَ من ناص بالمكان أقام فيه وهو بالنُّون في أوله، وفي رواية المستملي: <قَبَضْت فيها> بقاف وموحّدة مفتوحتين فضاد معجمة ساكنة فتاء متكلم، وقال الكرمانيُّ: ويروى: <قُبضت> بلفظ مجهول من القبضِ، وهو بإعجام الضَّاد.
          (وَفِي رَأْسِهَا) أي: في رأس العمود (عُرْوَةٌ) بضمّ العين وسكون الرّاء المهملتين، وفي رواية ابن عون: ((في أعلى العمود عروة))، وفي روايته في المناقب: ((ووسطها عمودٌ من حديدٍ أسفله في الأرض وأعلاه في السَّماء في أعلاه عروة)). وعرف من هذا: أنَّ الضَّمير في قوله: وفي رأسها للعمود، والعمود مذكّر وكأنَّه أنَّث باعتبار الدّعامة، وقيل: إنَّه مؤنث سماعيٌّ، أو أنّث باعتبار العمدة.
          (وَفِي أَسْفَلِهَا مِنْصَفٌ) بكسر الميم وسكون النّون وفتح الصّاد المهملة، وهو الوصيف، وقد فسَّره في الحديث بقوله: (وَالْمِنْصَفُ الْوَصِيفُ) وهو مدرجٌ في الخبر من تفسير ابن سيرين بدليل قوله في رواية مسلم: ((فجاءني منصف))، قال ابن عون: والمنصف الخادم ووصف أنَّه رفعه من خلفه بيده.
          وقال ابن التِّين: رويناه: <مَنصف> بفتح الميم، وقال الهرويّ: يقال: نصفت الرَّجل أنصفه نصافة: إذا خدمته، والمراد هنا بالوصيف: عون الله له.
          (فَقِيلَ) أي: قال ابن سلام: فقيل لي (ارْقَهْ) هو أمرٌ من رقى يرقي، من باب علم يعلم: إذا صعد ومصدره رقي (فَرَقِيتُ) بكسر القاف على الأفصح، أو في العمود، وفي رواية أبي ذرٍّ: <فرقيته> بزيادة ضمير المفعول (حَتَّى أَخَذْتُ بِالْعُرْوَةِ) أي: فاستمسكت بالعروة زاد في رواية المناقب: ((فرقيت حتَّى كنت في أعلاها فأخذت بالعروة فاستمسكت فاستيقظت وإنَّها لفي يدي)) ووقع في رواية خَرَشة عند مسلمٍ: ((حتَّى أتى لي عموداً رأسه في السَّماء وأسفله في الأرض في أعلاه حلقةً، فقال لي: اصعد فوق هذا قال: قلت: كيف أصعدُ فأخذ بيدي فزجل بي))، بزاي وجيم؛ / أي: رفعني ((فإذا أنا متعلِّقٌ بالحلقة ثمَّ ضربَ العمود فخرَّ وبقيت متعلقاً بالحلقة حتَّى أصبحت)).
          وفي رواية خَرَشة عند مسلمٍ زيادة: في أوَّل المنام ولفظه: ((قال: قدمت المدينة فجلست إلى أشيخة مشيخة في مسجد النَّبيّ صلعم فجاء شيخٌ يتوكَّأ على عصاً له فقال القوم: من سرَّه أن ينظرَ إلى رجلٍ من أهل الجنَّة فلينظرْ إلى هذا، فقال خلف سارية فصلَّى ركعتين فقمت إليه فقلت له: قال بعضُ القوم كذا، فقال: الجنَّة لله يدخلها من يشاء وإنِّي رأيت على عهد رسول الله صلعم رؤيا رأيت كأنَّ رجلاً أتاني فقال: قم فأخذ بيدي فانطلقت معه، فإذا أنا بجواد _بجيم ودال مشدّدة_ جمع جادّة، وهي: الطَّريق المسلوكة عن شمالي قال: فأخذتُ لآخذ فيها؛ أي: أسير فقال: لا تأخذ فيها فإنَّها طريق أصحاب الشِّمال)).
          وفي رواية النَّسائيّ من طريقه: ((فبينا أمشي إذ عرض لي طريقٌ عن شمالي فأردت أن أسلكها فقال: إنَّك لست من أهلها)) رجعنا إلى رواية مسلمٍ قال: ((وإذا منهجٌ على يميني فقال لي: خذها فأتى بي جبلاً فقال لي: اصعد قال: فجعلت إذا أردت أن أصعد خررت حتَّى فعلت ذلك مراراً))، وفي رواية النَّسائيّ وابن ماجه: ((حتَّى انتهيت إلى جبلٍ زلق فأخذ بيدي فزجل بي فإذا أنا في ذروته، ثمَّ انقار فلم أتماسك، وإذا عمودُ حديدٍ في ذروته حلقةٌ من ذهبٍ فأخذَ بيدي فزجل بي حتَّى أخذت بالعروة فقال: استمسك فاستمسكتُ قال: فضرب العمود برجله فاستمسكت بالعروة)).
          (فَقَصَصْتُهَا) أي: الرُّؤيا (عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلعم ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم : يَمُوتُ عَبْدُ اللَّهِ) أي: ابن سلامٍ (وَهْوَ آخِذٌ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) ثأنيت الأوثق الأشدُّ الوثيق، من الحبل الوثيق المحكم، وهو تمثيلٌ للمعلوم بالنَّظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتَّى يتصوَّره السَّامع كأنَّه ينظر إليه بعينه فيحكم باعتقاده، والمعنى: فقد عقد لنفسهِ من الدِّين عقداً وثيقاً لا تحلّه شبهة.
          وزاد في رواية ابن عون: ((فقال تلك / الرَّوضة روضة الإسلام، وذلك العمودُ عمودُ الإسلام، وتلك العروة العروة الوثقى لا تزال مستمسكاً بالإسلام حتَّى تموت)) وزاد في رواية خَرَشة عند النَّسائي وابن ماجه: ((فقصصتها على رسول الله صلعم ، فقال: رأيت خيراً إمَّا المنهج العظيم فالمحشر وإمَّا الطَّريق)). وفي رواية مسلم: ((فقال: أمَّا الطُّرق الَّتي عرضت عن يسارك فهي طرق أصحاب الشِّمال وطرق أهل النَّار ولست من أهلها، وأمَّا الطُّرق الَّتي عرضت عن يمينك فهي طرق أصحاب اليمين وطرق أهل الجنَّة، وأمَّا الجبل الزَّلق فمنزل الشُّهداء))، زاد مسلم: ((ولن تناله)).
          وأمَّا العمود فهو عمود الإسلام، وأمَّا العروة الَّتي استمسكت بها فعروة الإسلام، فاستمسك بها حتَّى تموت، قال: فأنا أرجو أن أكون من أهل الجنَّة، قال الرَّاوي: فإذا هو عبدُ الله بن سلام، وفي الحديث منقبة لعبد الله بن سلام.
          وفيه من أعلام النُّبوة: أنَّ عبد الله بن سلامٍ لا يموت شهيداً فوقع كذلك مات على فراشه في أوَّل خلافة معاوية ☺ بالمدينة، ونقل ابن التِّين عن الدَّاوديّ: أنَّ القوم إنَّما قالوا في عبد الله بن سلام أنَّه من أهل الجنَّة؛ لأنَّه كان من أهل بدرٍ، كذا قال.
          والَّذي أورد من طرق القصَّة يدلُّ على أنَّهم إنَّما أخذوا ذلك من قوله لما ذكر طريق الشِّمال إنَّك لست من أهلها، وإنَّما قال: ما كان ينبغي لهم... إلى آخره على سبيل التَّواضع كما تقدَّم وكراهية أن يشارَ إليه بالأصابع خشية أن يدخله العجب، ثمَّ إنَّه ليس من أهل بدر أصلاً، والله تعالى أعلم.
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة في قوله: ((في روضةٍ خضراء))، وقد رواه النَّسائيّ وابن ماجه ومسلم في «صحيحه».


[1] في العمدة الكرماني، وهذا قوله في الكواكب 24/116.