الناظر الصحيح على الجامع الصحيح

حديث: ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه

          969- (مِنْهَا): (الْعَمَلُ): مبتدأٌ، و(فِي أَيَّامٍ): متعلِّقٌ به، و(أَفْضَلُ): خبرُ المبتدأِ، أو (مِنْهَا) متعلِّقٌ بـــ(أَفْضَلُ)، والضَّميرُ لـــ(الْعَمَلُ) بتقديرِ: الأعمال، كما في: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ} [النور:31].
          ورواهُ سيبويهِ في «كتابه» بلفظ: (مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إِلَى اللهِ فِيْهَا الصَّوْمُ مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ) قاله الكِرمانيُّ، ومَثَّلَ به مسألةَ الكُحْل في رَفْعِ (أفعلِ) التَّفضيلِ الظَّاهرَ، أمَّا روايةُ «الصَّحيحِ»؛ فليستْ مِنْ ذلك.
          (إِلَّا رَجُلٌ): على حذفِ مضافٍ، أي: إلَّا جهادُ رجلٍ، قال هذا البِرْماويُّ.
          ورأيتُ في كلامِ ابنِ مالكٍ قال: (حديثُ: «ما العملُ في أيَّامٍ أفضلَ منها في هذِه الأيَّامِ»، قالوا: ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ؟ قال: «ولا الجهادُ إلَّا رجلٌ...» الحديث؛ فيه إشكالٌ مِن جهتينِ: /
          إحداهما: عَودُ ضميرٍ مؤنَّثٍ في «مِنْهَا» إلى «الْعَمَلُ»، وهو مذكَّرٌ.
          الثَّانية(1): استثناءُ «رَجُلٌ» مِنَ «الْجِهَادُ»، وإبدالُه منه معَ تباينِ جنسَيهما.
          فأمَّا الأوَّلُ فوجهُه أنَّ الألفَ واللَّامَ في «الْعَمَلُ» لاستغراقِ الجنسِ، فصارَ بهما فيه عمومٌ مُصَحِّحٌ لتأوُّلِه بجَمْعٍ؛ كغيرِه مِنْ أسماءِ الجنسِ المُعَرَّفةِ بالألفِ(2) واللَّامِ الجنسيَّة؛ ولذلك يُستثنى منه، نحو: {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ}(3) [العصر:2_3]، فوُصِفَ بما يُوصَفُ به الجمعُ، كقولِه تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ} [النور:31]، وكقولِ بعضِ العربِ: «أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّرْهَمُ البِيضُ، وَالدِّينَارُ الْحُمْرُ»، فكما جازَ أنْ يُوصَف بما يُوصَفَ به الجمعُ؛ لِمَا حَدَثَ فيه مِنَ العمومِ، كذلك يجوزُ أنْ يُعادَ إليه ضميرٌ كضميرِ الجمعِ، فيُقالُ: «الدِّينارُ(4) بِهَا هَلَكَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ»؛ لأنَّه في تأويلِ «الدَّنانير» و«ما العملُ في أيامٍ أفضلَ منها في هذِه الأيَّامِ»؛ لأنَّه في تأويلِ «الأعمال».
          ويجوزُ أنْ يكونَ أَنَّثَ ضميرَ «العمل»؛ لتأويلِه بـــ«حسنة»؛ كما أوَّلَ «الكتابَ» بـــ«صحيفة» مَنْ قالَ: «أتتْهُ كتابي». /
          وأمَّا الثاني فالوجهُ فيه أنَّه على تقديرِ: ولا الجهادُ إلَّا جهادُ رجلٍ، ثمَّ حُذِفَ المضافُ، وأُقِيمَ المضافُ إليه مُقامَه.
          والأصلُ في «وَلَا الْجِهَادُ»: «أَوَلَا الْجِهَادُ؟»؛ لأنَّ قائلَ ذلك مُستفهِمٌ لا مُخبِرٌ، فظهورُ المعنى سوَّغَ حَذْفَ الهمزةِ، كما سوَّغَه في قولِه صلعم: «وَإِنْ زَنَى، وَإِنْ سَرَقَ؟»، فإنَّ الأصلَ فيه: أَوَإِنْ زنى، وإِنْ سَرَقَ؟) انتهى.
          وقال الزَّركشيُّ: («إِلَّا رَجُلٌ» فيه وجهانِ:
          أحدُهما: أنَّ الاستثناءَ متَّصلٌ، أي: إلَّا عملُ رجلٍ؛ لأنَّه استثناءٌ مِنَ «العمل».
          الثَّاني: أنَّه منقطعٌ، أي: لكنْ رجلٌ يَخرُجُ مُخاطِرًا بنفسِه(5) فلم يرجعْ بشيءٍ أفضلُ مِنْ غيرِه).
          إشارةٌ: قولُه: (ورواه سيبويهِ في «كتابه» بلفظ: «ما مِنْ أيَّامٍ...» إلى آخره) اعلم أنَّه وردَ في «السُّننِ»: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إِلَى اللهِ أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فِيهَا مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، يَعْدِلُ صِيَامُ كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا بِصِيَامِ سَنَةٍ، وَقِيَامُ كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْهَا بِقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ»، قيلَ: لو قيلَ: (أَنْ يُتَعَبَّدَ) مبتدأٌ، و(أَحَبُّ) خبرُه، و(مِنْ) متعلِّقٌ بـــ(أَحَبُّ) يلزمُ الفصلُ بينَ (أَحَبُّ) ومعمولِه بأجنبيٍّ، فالوجهُ أنْ يُقرأَ: (أَحَبَّ) بالفتحِ ليكونَ صفةَ (أَيَّامٍ)، و(أَنْ يُتَعَبَّدَ) فاعلُه، و(مِنْ) متعلِّقٌ بـــ(أَحَبَّ)، والفصلُ لا يكونُ بأجنبيٍّ، / وهو مِثْلُ قولِكَ: (ما رأيتُ رجلًا أحسنَ في عينِه الكُحْلُ مِنْ عينِ زيدٍ)، وخبرُ (ما) محذوفٌ.
          قال الطِّيبيُّ: (أقولُ: لو ذهبَ إلى أنَّ «أَحَبُّ» خبرُ «مَا»، وأنَّ «أَنْ يُتَعَبَّدَ» متعلِّقٌ بـــ«أَحَبُّ» بحذفِ الجارِّ، فيكونُ المعنى: ما مِنْ أيَّامٍ أحبُّ إلى الله لِأنْ يُتَعَبَّدَ له فيها مِنْ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ؛ لكانَ أَولى مِنْ حيثُ اللفظُ والمعنى، أمَّا اللفظُ فظاهرٌ، وأمَّا المعنى فإنَّ سَوْقَ الكلامِ لتعظيمِ الأَيَّامِ وتفخيمِها، والعبادةُ تابعةٌ لها، لا عكسُه، وعلى ما ذهبَ إليه القائلُ يلزمُ العكسُ معَ ارتكابِ ذلكَ التَّعَسُّفِ).


[1] في النسختين: (الثاني)، والمثبت لاستقامة العبارة.
[2] في (ب): (باللام).
[3] قوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} ليس في النسختين، وهو مستدركٌ من مصدره.
[4] في النسختين: (الدرهم)، والمثبت من مصدره، مراعاة لقوله بعد: (لأنه في تأويل الدنانير) جمع دينار.
[5] (بنفسه): ليست في (ب).