الناظر الصحيح على الجامع الصحيح

حديث: أرأيتكم ليلتكم هذه فإن رأس مائة سنة منها

          116- (أَرَأَيْتَكُمْ): بفتحِ تاء(1) الخطابِ بمعنى: الإبصارِ، وسيأتي كلامُ الأصفهانيِّ [خ¦601]، (لَيْلَتَكُمْ) مفعولٌ به، و(كُمْ) حرف لا محلَّ له من الإعراب، ولو كان اسمًا؛ لكانَ مفعولَ (رَأَيْتَ) فيجبُ أنْ يُقالَ: أرأيتُموكُم؛ لأنَّ الخطابَ لجماعةٍ، وإذا كان لجماعةٍ وَجَبَ أنْ يكونَ بالتَّاءِ والميمِ؛ كما في (علمتُموكم قائمينَ) رعايةً للمطابقة. /
          فإنْ قلتَ: فهذا يَلزمُكَ أيضًا في التاء، فإنَّ التاء اسم، فينبغي أن تكونَ (أرأيتموكم).
          قلتُ: لمَّا كان الكافُ والميمُ لمجرَّدِ الخطاب اخْتُصِرت عنِ التَّاءِ والميمِ بالتاءِ وحدَها؛ للعِلْمِ بأنَّه جَمْعٌ بقولِ: كُم، والفرقُ بينَ حرفِ الخطاب واسمِ الخطاب: أنَّ الاسمَ يقعُ مسندًا ومسندًا إليه، والحرف علامةٌ تُستعملُ معَ استقلالِ الكلام واستغنائِهِ عنها باعتبارِ المسندِ والمسندِ إليه، فوِزَانُها وِزَانُ التَّنوينِ وياءِ النِّسبةِ، وأيضًا اسمُ الخطابِ يدُلُّ على عينِ ومعنى الخطاب، وحرفُه لا يدُلُّ إلَّا على الثَّاني، انتهى كلامُ الكِرمانيِّ.
          وقال غيرُه: (أَرَأَيْتَكُم): للاستفهام والاستخبار، وهي كلمةٌ تقولُها العرب إذا أرادتِ الاستخبارَ، وهي بفتحِ التَّاءِ للمذكَّرِ والمؤنَّثِ، والجمعِ والمفردِ، تقولُ: أرأيتَكَ، وأرأيتَكِ، وأرأيتَكُما، وأرأيتَكُم؛ والمعنى: أخبروني أو أخبريني... وكذا باقيْهِنَّ، فإِنْ أردتَ معنى الرُّؤيةِ أنَّثْتَ، وجَمَعْتَ.
          وقد أطال السَّمينُ النَّفَسَ على (أَرَأَيْتَكُم) في «إعرابه» في (سورة الأنعام)، فانظرْه فإنَّه مفيدٌ، ⌂.
          (هَذِهِ): موضعُه نَصْبٌ، قال الزَّركشيُّ: (والجوابُ محذوفٌ، التَّقديرُ: أرأيتَكُم ليلتَكُم هذِه فاحفَظُوها واحفَظُوا تارِيخَها، فإنَّ بعدَ انقضاءِ مئةِ سنةٍ لا يَبقى ممَّنْ / هوَ على ظهرِ الأرضِ أَحَدٌ، أي: هوَ اليومَ حَيٌّ) انتهى.[14أ]
          (فَإِنَّ عَلَى رَأْس): اسمُ (إِنَّ) ضميرُ الشَّأنِ.
          (مِنْهَا): استدلَّ بعضُ أهلِ اللُّغةِ بقوله: (مِنْهَا) على أنَّ (مِنْ) تكونُ لابتداءِ الغايةِ في الزَّمانِ؛ كـــ(مُذْ)، وهو مذهبٌ كوفيٌّ.
          وقال البصريُّونَ: لا تدخلُ (مِنْ) إلَّا على المكان، و(منذ) في الزَّمانِ نظيرُ (مِنْ) في المكان، وتأوَّلوا ما جاءَ على خِلافِه مثل قوله تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:108]، أي: مِنْ أيَّامِ وجودِه؛ كما قدَّرَهُ الزَّمخشريُّ، أو: مِنْ تأسيسِ أوَّلِ يومٍ، كما قدَّرَهُ الفارسيُّ، وضُعِّفَ بأنَّ التَّأسيسَ ليسَ بمكان(2)، ومثلُه قولُ / عائشةَ: (وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مِنْ يَوْمِ قِيلَ مَا قِيْلَ)، وقولُ أنسٍ: (فَمَا زِلْتُ أُحِبُّ الدُّبَّاءِ مِنْ يَوْمِئِذٍ)، وقولُ بعضِ الصحابةِ: (مُطِرْنا مِنَ الجمعةِ إلى الجمعةِ).


[1] (تاء): ليس في (أ)، وفي (ب): (التاء)، وضرب عليها، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في النسختين: (ثمَّ كان)، وهو خطأ، والتصحيح من مصدره، والذي ضعَّف هذا التقدير هو أبو البقاء في «إملاء ما منَّ به الرحمن» (ص318)، وتعقَّبه في «الدر المصون» (6/122) فقال: (قلتُ: البصريون إنما فَرُّوا مِنْ كونِها لابتداء الغاية في الزمان، وليس في هذه العبارة ما يقتضي أنَّها لا تكونُ إلَّا لابتداء الغاية في المكان حتى يُرَدَّ عليهم بما ذُكِر، والخلافُ في هذه المسألة قويٌّ، ولأبي عليٍّ فيها كلامٌ طويلٌ)، وقال ابن عطية في «المحرر الوجيز» (7/38): (ويَحْسُنُ عندي أنْ يُسْتغنى عن تقديرٍ، وأنْ تكونَ {مِنْ} تجرُّ لفظةَ {أَوَّلِ}؛ لأنَّها بمعنى البداءة؛ كأنَّه قال: مِنْ مبتدأِ الأيَّامِ... وقد حُكيَ لي هذا الذي اخترتُه عن بعضِ أئمَّةِ النَّحْوِ)، وانظر الخلاف في المسألة في «الإنصاف» (1/317_321)، «شرح المفصل» (8/10_12)، «شرح الرضي على الكافية» (4/263_264)، «مغني اللبيب» (ص419_420)، «أوضح المسالك» (3/21_22)، «الجامع لأحكام القرآن» (10/380)، «خزانة الأدب» (9/439_441)، وانظر كلام المصنف بحروفه في «التوضيح» (3/584)، «عمدة القاري» (2/176).