المختصر النصيح في تهذيب الكتاب الجامع الصحيح

حديث: ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟

          2312- قال البخاريُّ: حدثنا يحيى ابن بكير: حدَّثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، [عن عبد الرحمن بن] عبد الله بن كعب: أن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بنيه حين عمي قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حين تخلف عن قصة تبوك، قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر ولم يُعاتَب أحدٌ(1) تخلف(2)، إنما خرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أَذْكَرَ في الناس منها، كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة(3)، ولم يكن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، غزاها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في حر شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا، ومفازًا وعدوًّا كثيرًا، فجلَّى للمسلمين أمرهم؛ ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد والمسلمون مع النَّبيِّ(4) صلَّى الله عليه وسلَّم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ _يريد الديوان_.
          قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي الله، وغزا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وتجهز رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقضِ(5) شيئًا فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم والمسلمون معه، ولم أقضِ من جهازي شيئًا، فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهَّزَ فرجعت فلم(6) أقضِ شيئًا، ثم غدوت ثم رجعت ولم أقضِ شيئًا، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن ارتحل فأدركهم _وليتني فعلت_ فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلًا مغموصًا عليه النفاق، أو رجلًا ممن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعب بن مالك؟» فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله؛ حبسه برداه ونظره في عطفه / ، فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا، فسكت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
          قال كعب بن مالك: فلما بلغني أنه توجه قافلًا؛ حضرني همي، وطفقت أتذكر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدًا؟ واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل: إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد أظل قادمًا؛ زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبدًا بشيء فيه كذب فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قادمًا وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع(7) فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك؛ جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون(8) إليه ويحلفون له، وكانوا بضعةً وثمانين رجلًا، فقبل منهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله، فجئته فلما سلمت عليه؛ تبسم تبسم المغضب، ثم قال: «تعال» فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: «ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟» فقلت: بلى؛ إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا؛ لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلًا، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني؛ ليوشكن الله أن يُسْخِطكَ(9) علي، ولئن حدثتك حديث صدق وتجد(10) علي فيه؛ إني لأرجو فيه عفوالله، لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أما هذا؛ فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك». فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبًا قبل هذا، ولقد عجزت ألَّا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بما اعتذر إليه المتخلفون، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم(11)، فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم رجلان، قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت: من هما؟ فقالوا: مرارة بن ربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي، ونهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المسلمين عن كلامنا، أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتَنَبَنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة.
          فأما صاحباي؛ فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا؛ فكنت أشبَّ القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم [فأسلم عليه] وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريبًا منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي؛ أقبل إلي، وإذا التفت نحوه؛ أعرض عني، حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس؛ مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه فوالله ما رد عليَّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة؛ أنشدك بالله هل(12) تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فعدت له فنشدته فسكت، فعدت له فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وتوليت / حتى تسورت الجدار.
          قال: فبينا أنا أمشي بسوق المدينة؛ إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني؛ دفع إلي كتابًا من ملك غسان، فإذا فيه: أما [بعد] ؛ فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك(13)، فقلت لما قرأتها: وهذا أيضًا من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرته بها، حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين؛ إذا رسول لرسول(14) الله صلَّى الله عليه وسلَّم يأتيني فقال: إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يأمرك أن تعتزل(15) امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبيَّ مثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر.
          قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالت: يا رسول الله؛ إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: «لا ولكن لا يقربك»، قالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي مذ(16) كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه؟ فقلت: والله لا استأذن فيها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وما يدريني ما يقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب، فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن كلامنا.
          فلما صليت صلاة الصبح(17) صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت؛ سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر، فخررت ساجدًا وعرفت أن قد جاء فرج، فآذن النَّبيُّ(18) صلَّى الله عليه وسلَّم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض رجل إلي(19) فرسًا، وسعى ساعٍ من أسلم فأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني؛ نزعت له ثوبيَّ فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يتلقاني الناس فوجًا فوجًا يهنوني بالتوبة، ويقولون: لتهنك توبة الله عليك، قال كعب: حتى دخلت المسجد؛ فإذا برسول(20) الله صلَّى الله عليه وسلَّم جالس حوله الناس، فقام إلي طلحة بن عبيد(21) الله يهرول حتى صافحني وهناني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة، قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يبرق وجهه من السرور: «أبشر بخير يوم مر عليك مذ(22) ولدتك أمك»، قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: «لا، بل من عند الله»، وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه؛ قلت: يا رسول الله؛ إن من توبتي أن أنخلع من [مالي] / صدقةً إلى الله وإلى رسوله(23)، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أمسك [عليك] بعض مالك فهو خير لك»، قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، فقلت: يا رسول الله؛ إن الله إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقًا ما بقيت، فوالله ما أعلم أحدًا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث مذ ذكرت ذلك لرسول الله أحسن مما أبلاني، ما تعمدت مذ ذكرت ذلك لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى يومي هذا كذبًا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت، فأنزل الله على رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ...} إلى قوله: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:117-119] فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط [بعد] أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ألَّا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد، فقال الله تبارك اسمه: {سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إليهم...} إلى قوله: {فَإِنَّ اللّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:95-96].
          قال كعب: وكنا تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118]، وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو، وإنما(24) هو تخليفه إيَّانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه. [خ¦4418]
          وخرَّجه في باب إذا أوقف بعض ماله أو بعض رقيقه أو دوابه؛ فهو جائز مختصرًا، وفي باب هل للإمام أن يمنع المحبوسين وأهل المعصية من الكلام والزيارة ونحوه، وفي باب من لم يسلم على من اقترف ذنبًا، وفي باب قوله عزَّ وجلَّ: {سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ...} الآية [التوبة:95]، وفي باب: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ...}الآية [التوبة:117] مختصرًا، وفي باب قوله عزَّ وجلَّ: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا...} الآية[التوبة:118]، وفي باب قوله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، وفي باب من أراد غزوة فورى بغيرها، ومن أحب الخروج يوم الخميس، وفي باب إذا أهدى ماله على وجه النذر والتوبة. [خ¦2757] [خ¦7225] [خ¦6255] [خ¦4673] [خ¦4676] [خ¦4677] [خ¦4678] [خ¦2947] [خ¦6690]


[1] كذا في الأصل، وهي رواية أبي ذرٍ وأبي الوقت، وفي «اليونينية»: (يعاتِب أحدًا).
[2] كذا في الأصل، وزيد في «اليونينية»: (عنها).
[3] كذا في الأصل، وفي «اليونينية»: (الغزوة).
[4] كذا في الأصل، وفي «اليونينية»: (رسول الله).
[5] في الأصل: (أقبض)، وهو تحريف.
[6] كذا في الأصل، وفي «اليونينية»: (ولم).
[7] كذا في الأصل، وفي «اليونينية»: (فيركع).
[8] في الأصل: (يعذرون)، والمثبت موافق لما في «الصحيح».
[9] في الأصل: (يسخط)، والمثبت موافق لما في «الصحيح».
[10] كذا في الأصل، وفي «اليونينية»: (تجد).
[11] كذا في الأصل، وزيد في «اليونينية»: (لك).
[12] في الأصل: (فهل)، والمثبت موافق لما في «الصحيح».
[13] في الأصل: (نواسيك)، والمثبت موافق لما في «الصحيح».
[14] كذا في الأصل، وهي رواية أبي ذرٍّ، وفي «اليونينية»: (رسول).
[15] في الأصل: (تعزل)، والمثبت موافق لما في «الصحيح».
[16] كذا في الأصل، وفي «اليونينية»: (منذ).
[17] كذا في الأصل، وفي «اليونينية»: (الفجر).
[18] كذا في الأصل، وفي «اليونينية»: (رسول الله).
[19] كذا في الأصل، وفي «اليونينية»: (إلي رجل).
[20] كذا في الأصل، وفي «اليونينية»: (رسول).
[21] في الأصل: (عبد)، وهو تحريف.
[22] كذا في الأصل، وفي «اليونينية»: (منذ)، وكذا في المواضع اللاحقة.
[23] كذا في الأصل، وهي رواية أبي ذرٍّ، وفي «اليونينية»: (رسول الله).
[24] كذا في الأصل، وهي رواية أبي الوقت، وفي «اليونينية»: (إنما).