المختصر النصيح في تهذيب الكتاب الجامع الصحيح

حديث: إني رأيت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين

          2184- قال البخاريُّ: حدثنا محمد: حدَّثنا(1) عبد الصمد: حدَّثنا أبي: حدَّثنا عبد العزيز بن صهيب: حدَّثنا أنس بن مالك. [خ¦3911]
          2185- قال البخاريُّ: حدثنا يحيى ابن بكير: حدَّثنا الليث عن عقيل: قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير: أن عائشة زوج النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم طرفي النهار بكرة وعشيًّا، فلما ابتلي المؤمنون(2) ؛ خرج أبو بكر مهاجرًا نحو أرض الحبشة حتى إذا(3) بلغ بَرْكَ الغماد؛ لقيه ابن الدَّغْنَة(4) وهو سيد القارة، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يَخرج ولا يُخرَج، أنت(5) تكسب المعدم(6)، وتصل الرحم(7)، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، ارجع فاعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف كفار قريش، قال لهم: إن أبا بكر لا يَخرج مثله ولا يُخرَج، أتخرجون رجلًا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكَلَّ، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة: مُر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل بها(8)، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذنا(9) بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدًا بفناء داره وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم(10) يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلًا بكاء لا يملك عينه(11) إذا قرأ القرآن، فأفزع لذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم، فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره / ، فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجدًا بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن(12) نساءنا وأبناءنا فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره؛ فعل، فإن(13) أبى إلا أن يعلن بذلك؛ فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نُخفِرك ولسنا مقرين لأبي بكر بالاستعلان، قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إليَّ ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له، قال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله عزَّ وجلَّ.
          والنَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يومئذ بمكة، فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم للمسلمين: «إني رأيت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين»، وهما الحرتان، فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة، فقال له النَّبيُّ(14) صلَّى الله عليه وسلَّم: «على رِسلِكَ، فإني أرجو أن يؤذن لي» فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: «نعم» فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السَّمُرِ _وهو الخبط_ أربعة أشهر.
          قال ابن شهاب: قال عروة: قالت عائشة: فبينما نحن(15) جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم متقنعًا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، قال أبو بكر: فداءٌ له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمرٌ، قالت: فجاء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فاستأذن فأذن له فدخل، فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لأبي بكر: «أخرج من عندك»، قال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال: «فإنه(16) قد أذن لي في الخروج»، قال أبو بكر: الصحابة بأبي أنت يا رسول الله. قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «نعم»، قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «بالثمن».
          قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاق.
          قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فمكثا(17) فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام ٌشاب ثقفٌ لقنٌ، فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرًا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسلٍ، وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليال(18) الثلاث. [خ¦3905]
          زاد هشام: فلا يفطن به أحد من الرعاء، فلما خرجا(19) ؛ خرج معهما يعقبانه حتى قدم(20) المدينة. [خ¦4093]
          واستأجر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأبو بكر رضي الله عنه رجلًا من بني الديل، وهو من بني عبد بن عدي هاديًا خريتًا _والخريت: الماهر بالهداية_ قد غمس حلفًا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتهما(21) وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما(22) صبح ثالث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق السواحل.


[1] في الأصل: (بن)، وليس بصحيح.
[2] كذا في الأصل، وفي «اليونينية»: (المسلمون).
[3] كذا في الأصل، وهي رواية أبي ذرٍّ، و(إذا): ليس في «اليونينية».
[4] كذا في الأصل، وفي «اليونينية»: (الدَّغِنَة).
[5] كذا في الأصل، وهي رواية المستملي والكشميهني، وفي «اليونينية»: (إنك).
[6] كذا في الأصل، وهي رواية أبي ذرٍّ عن الكشميهني، وفي «اليونينية»: (المعدوم).
[7] كذا في الأصل، وزيد في «اليونينية»: (وتحمل الكل).
[8] كذا في الأصل، وفي «اليونينية»: (فيها).
[9] كذا في الأصل، وفي «اليونينية»: (يؤذينا).
[10] كذا في الأصل، وزيد في «اليونينية»: (وهم).
[11] كذا في الأصل، وفي «اليونينية»: (عينيه).
[12] في الأصل: (يفتتن)، والمثبت موافق لما في «الصحيح».
[13] كذا في الأصل، وفي «اليونينية»: (وإن).
[14] كذا في الأصل، وفي «اليونينية»: (رسول الله).
[15] كذا في الأصل، وزيد في «اليونينية»: (يومًا).
[16] كذا في الأصل، وهي رواية أبي ذرٍّ عن الكشميهني، وفي «اليونينية»: (فإني).
[17] كذا في الأصل، وفي «اليونينية»: (فكمنا).
[18] كذا في الأصل، وفي «اليونينية»: (الليالي).
[19] كذا في الأصل، وفي «اليونينية»: (خرج).
[20] كذا في الأصل، وهي رواية أبي ذرٍّ، وفي «اليونينية»: (قدما).
[21] كذا في الأصل، وفي «اليونينية»: (راحلتيهما).
[22] في الأصل: (براحليهما)، وهو تحريف.