مصابيح الجامع الصحيح

حديث: ما كان النبي يأتيني في يوم بعد العصر إلا صلى ركعتين

          593- قوله: (إِلَّا صَلَّى) أي: بعد الإتيان وهو استثناء مفرَّغ؛ أي: ما كان يأتيني بوجه أو حالة إلَّا بهذا الوجه أو هذه الحالة.
          ووجه الجمع بين هذه الأحاديث وما تقدَّم أنَّه ◙ نهى عن الصَّلاةِ بعد صلاة العصر بأنَّ النَّهي كان في صلاة لا سببَ لها، وصلاته ◙ كانت بسبب قضاء فائتة الظُّهر، أو النَّهي هو فيما يتحرَّى فيها.
          وفعله كان بدون التَّحرِّي، أو أنَّه كان من خصائصه، أو أنَّ النَّهي كان للكراهة، فأراد ◙ بيان ذلك ودفع وهم التَّحرِّي.
          أو أنَّ العلَّة في النَّهي هو التَّشْبيه بعَبَدة الشَّمْس، والرَّسول ◙ مُنزَّه عن التَّشبُّه بهم، أو أنَّه ◙ لمَّا قضى فائتةَ ذلك اليوم وكان في فواته نوع تَقْصير؛ واظب عليها مدَّة عمره جبرًا لما وقع، والكلُّ باطل.
          أمَّا أوَّلا؛ فلأنَّ الفوات كان في يوم واحد، وهو يوم اشتغاله بعبد القيس، وصلاته بعد العصر كانت مستمرَّة دائمًا.
          وأمَّا ثانيًا؛ فلأنَّه ◙ كان يداوم عليها ويقصد أداءها كلَّ يوم، وهو معنى التَّحرِّي.
          وأمَّا ثالثًا؛ فلأنَّ الأصل عدم الاختصاص ووجوب متابعة لقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف:158].
          وأمَّا رابعًا؛ فإنَّ بيان الجواز يَحْصل بمرَّة واحدة، ولا يحتاج في دفع وهم الحُرْمة إلى المداومةِ عليها.
          وأمَّا خامسًا؛ فلأنَّ العلَّةَ في الصَّلاةِ بعد فرض العَصْر ليس التَّشبيه بهم، بَلْ هي العلَّة لكراهةِ الصَّلاةِ عند الغروب فقط.
          وأمَّا سادسًا؛ فلأنَّا لا نسلِّم أنَّه كان تقصيرًا؛ / لأنَّه كان مشتغلًا في ذلك الوقتِ بما هو أهمُّ وهو إرشادهم إلى الحقِّ، أو لأنَّ الفوات كان بالنِّسيان، ثمَّ إنَّ الجَبْر يَحْصل بقضائه مرَّةً واحدة على ما هو حكم أبواب القضاء في جميع العبادات.
          بَلِ الجواب الصَّحيح أنَّ النَّهي قولٌ، وصلاته فعْل، والقول والفعل إذا تعارضا يُقدَّم القول ويُعمَل به.
          إن قلتَ: تقديم القول إنَّما هو فيما لم يعلم التَّاريخ، وههنا معلوم؛ لأنَّ الفعلَ كان إلى آخر عمره؛ قلتُ: النَّهي مطلقٌ مجهولُ التَّاريخ، والمطلقة والمؤرِّخة حكمها واحد؛ لاحتمال أن تكون المطلقة مع المؤرِّخة في الزَّمان.
          البغويُّ: فَعَله أوَّلَ مرَّةٍ قضاء، ثمَّ أثبته، وكان مخصوصًا بالمواظبة على مَا فعله مرَّة.
          وفي «مسلم» : وكان إذا صلَّى صلاة أثبتها.