مصابيح الجامع الصحيح

حديث: إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة

          247- قوله: (أَخْبَرَنَا سُفْيَان) يُحتمَل: الثَّوريُّ وابن عيينة؛ لأنَّ عبد الله بن المبارك يروي عنهما، وهما يرويان عن منصور بن المعتمر، والظَّاهر أنَّه الثَّوريُّ، انتهى.
          قلتُ: صرَّح أبو العبَّاس الطَّرْقيُّ بأنَّه الثَّوريُّ.
          قوله: (مَضْجَعِكَ) بفتح الجيم، انتهى، وقال القرطبيُّ: بالكسر أيضًا؛ كالمطلع.
          قال الكرمانيُّ: إذا أردتَ أن تأتي مضجعك؛ فتوضَّأ، كقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النَّحل:98]؛ أي: إذا أردت القراءة.
          قوله: (أَلْجَأتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ) أي: توكَّلتُ عليك واعتمدتك في أموري كما يعتمد الإنسان بظهره إلى ما يسنده.
          الجوهريُّ: (ألجأتُ) أسندتُ وأسلمتُ واستسلمتُ، وجعلتُ نفسي منقادةً لك طائعةً لحكمك، والإسلام والاستسلام بمعنًى، والمراد: من الرَّجاء لذاته.
          قوله: (رَغْبَةً وَ رَهْبَةً) طمعًا في ثوابك وخوفًا من عقابك.
          إن قلتَ: الرَّهْبة تُستعمَل بـ(من)، يُقال: رهبةً منك، قلتُ: (إليك) متعلِّقٌ بـ(رغبة)، وأُعطِيَ للرَّهبة حكمها، والعرب كثيرًا تفعل ذلك، كقول بعضهم:
ورأيتُ بعلك في الوغى                     متقلِّدًا سيفًا ورمحًا
          والرُّمح لا يُتقلَّد، وكقوله:
وعلفته تبنًا وماءًا باردًا
          انتهى كلام الكرمانيِّ.
          وقال ابن الجوزيِّ: أسقط من الرَّهبة لفظ (منك)، وأعمل لفظ (الرَّغبة) بقوله: (إليك)، على عادة العرب في أشعارهنَّ:
وزجَّجن الحواجبَ والعيونا
          والعيون لا تُزجَّج، ولكنَّه لمَّا جمعها في النَّظم؛ حمل أحدَهما على حكم الآخرِ.
          قوله: (وَلَا مَلْجَأ) بالهمزة، ويجوز التَّخفيف، و(لَا مَنْجَى) مقصورٌ، وإعرابه كإعرابِ (عصا).
          إن قلتَ: هل يُقرَأ بالتَّنوين، أو بغير التَّنوين؛ قلتُ: في هذا التَّركيب خمسة أوجه؛ لأنَّه مثل: (لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله)، والفرق بينَ نصبه وفتحه بالتَّنوين وعند التَّنوين تسقط الألف؛ ثمَّ إنَّهما / إن كانا مَصْدرين يتنازعان في منك، وإن كانا مكانين فلا، إذ اسم المكان لا يعمل، وتقديره: لا ملجأ منك إلى أحدٍ إلَّا إليك، ولا منجى إلَّا إليك.
          قوله: (بِكِتَابِكَ) أي: القرآن.
          إن قلتَ: المفرد المضاف يفيد العموم، فلمَ خصَّصه بالقرآن؟
          قلتُ: بقرينة المقام، مع أنَّ عمومَه مختلفٌ فيه، ثمَّ الإيمان بالقرآن مُسْتلزمٌ للإيمان بجميع الكتب المنزلة، فلو حملناه على العمومِ؛ لجاز أيضًا، وههنا فائدة، وهي أنَّ المعرَّف بالإضافة كالمعرَّف باللَّام، يحتمل الجنسَ والاستغراق والعهد بلفظ (كتابك) مجملٌ لجميع الكتب ولجنس الكتب ولبعضها كالقرآن، بل جميع المعارف كذلك يُعْلَم من الكشَّاف في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا} [طه:56]، وفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِيْنَ كَفَرُوا} [البقرة:6] في أوَّل البقرةِ.
          قوله: (مَا تَتَكَلَّمُ) وفي بعضها: بحذف إحدى التَّائين (تكلَّم).
          إن قلتَ: هذا ذكرٌ و دعاءٌ وتنزيهٌ، ولا يُسمَّى كلامًا عرفًا؛ ذكره الفقهاء في (باب اليمين)؛ قلتُ: كلامٌ لغةً، وأمَّا أمر الإيمان؛ فمبنيُّ على العُرْف والسِّياق، فيقتضي أن يقول: فلما بلغت (ونبيِّك) إذ التَّغيير فيه لا في (اللَّهمَّ)، لكنَّ المراد: فلمَّا بلغتُ آخر هذه الجملة؛ أي: حتَّى تلفَّظتُ بـ(أنزلت، ورسولك) بدل (نبيِّك)؛ فقال رسول الله صلعم: لا تقل: رسولك، بل قل: ونبيِّك.
          خاتمة:
          (عَلَى الفِطْرَةِ) أي: على دين الإسلام، وقد تكون الفطرة بمعنى الجبلَّة، لقوله تعالى: {فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الرُّوم:30]، وبمعنى السُّنَّة، كقوله ◙: «خمس من الفطرةِ».
          الخطَّابيُّ: في ردِّ الرَّسول صلعم لفظَ البراء حجَّةٌ لمن لم يرَ أن يُروَي الحديث على المعنى كما هو قول ابن سيرين وغيره، وكان يَذْهب هذا المذهب أبو العبَّاس النَّحويُّ، ويقول: ما من لفظة من الألفاظ المتناظرة من كلامهم؛ إلَّا وبينَها وبين صاحبتها فرق وإن دقَّ ولطُفَ، كقولك: بلى ونعم، وقال وقلتُ، والفرق بين (النَّبيِّ والرَّسول): أنَّ (النَّبيَّ): هو المنبَّأ، فعيل بمعنى مفعول، و(الرَّسول): هو المأمور بتبليغ ما أُنبِئ وأُخبِرَ عنه، فكلُّ رسول نبيٌّ، وليس كلُّ نبيٍّ رسول، وأقول: أو فعيل بمعنى فاعل؛ أي: المخبر عن اللهِ، وقال: ويُحتمَل أن يكونَ الرَّدُّ بسببِ أنَّ الرَّسولَ يُنبِّئ عن الإرسال، فاتِّباعه بقوله: (أرسلتَ) يكون تَكرار أفعاله، و(نبيِّك) وقد كان نبيًّا قبل أن يكون رسولًا؛ ليجمعَ له الثَّناء بالاسمين معًا، ويكون تعديدًا للنِّعمة في الحالين، وتعظيمًا للمنَّة في الوجهين.
          وقال المهلَّب: إنَّما لم تُبدَّل ألفاظه ◙؛ لأنَّها منابع الحكمة وجوامع الكلم، فلو جوَّز أن يُعبِّر عن كلامه بكلام غيره؛ سقطت فائدة النِّهاية في البلاغة الَّتي أعطها ◙، وقال بعضهم: لم يرد النَّبيُّ صلعم بردِّه على البراء تحرى لفظه فقط، إنَّما أراد بذلك المعنى الَّذي ليس في لفظ الرَّسول، وهو يخلِّص الكلام من اللَّبس، إذ الرَّسول يدخل فيه جبريل ◙ وغيره من الملائكة الَّذين هم ليسوا بأنبياء، قال تعالى: {اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، والمقصود التَّصديق بنبوَّته بعد التَّصديق بكتابه، وإن كان غيره من رسل اللهِ واجب الإيمان بهم، وهذه شهادة الإخلاص الَّذي من مات عليها دخل الجنَّة.
          النَّوويُّ: اختار المازريُّ أنَّ سبب الإنكار أنَّ هذا ذكرٌ ودعاءٌ، فيقتصر فيه / على اللَّفظ الوارد بحروفه، وقد يتعلَّق الجزاء بتلك الحروف، ولعلَّه أوحى إليه صلعم بهذه الكلمات، فيتعيَّن أداؤها بحروفها.
          وقال: واعلم أنَّه لا يَلْزم من الرِّسالة النُّبوَّة لا عكسه، واحتجَّ بعضهم به على منع الرِّواية بالمعنى، والجواب: أنَّ المعنى في هذا الحديث مختلفٌ، ولا خلافَ في المنع إذا اختلف المعنى، ووقع في «مسلم» : قلتُ: (آمنتُ برسولك الَّذي أرسلتَ).