مصابيح الجامع الصحيح

حديث: أما بعد فإني أتيت النبي قلت أبايعك على الإسلام

          58- قوله: (سَمِعْتُ جَرِيْرَ) إن قلتَ: ما وجهه، إذ المسموع هو الصَّوت والحرف فقط.
          قلتُ: القيام لا دخل له في أمر السَّماع، ولو قال: سمعتُ جريرًا حمد الله؛ لكان صحيحًا بلفظ (حمد الله) مقدَّر بعده، وتقديره: سمعتُ جريرًا حمد الله، والمذكور بعده مفسِّرٌ له.
          إن قلتَ: ما محلُّ (قال)؟
          قلتُ: استئنافٌ.
          قال الزَّمخشريُّ في قوله تعالى: {سَمِعْنَا مُنَادِيًا} [آل عمران:193] يقول: سمعتُ رجلًا يتكلَّم، فتوقع الفعل على الرَّجل، وتحذف المسموع لأنَّك وصفته / بما يُسمَع، أو جعلته حالًا عنه، فأغناك عن ذكره، ولولا الوصف أو الحال؛ لم يكن منه بدٌّ، وأن يُقال: سمعتُ كلامه.
          [فائدة: (الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَة) قصَّ له ◙ شاربه على سواك وهذه مَنْقبة لا نعرفها لغيره من الصَّحابة].
          قوله: (حَمِدَ اللهَ) بفتح الميم وكسرها؛ أي: أثنى عليه بالجميل.
          قوله: (وَأَثْنَى عَلَيْهِ) أي: ذكره بالخير، ويُحتمَل أن يُرَادَ بالحمد؛ وَصْفه مُتَحلِّيًا بالكمالات، وبالثَّناء؛ وصفه متخلِّيًا عن النَّقائص، فالأوَّل إشارةٌ إلى الصِّفات الوجوديَّة، والثَّاني إلى الصِّفات العَدَميَّة؛ أي: البديهيَّات.
          قوله: (عَلَيْكُمْ بِاتِّقاءِ اللهِ) أي: الزموا أيضًا وهو اسمٌ كأسماء الأفعال.
          (وَحْدَهُ) قال الكرمانيُّ: (منصوبٌ على الحال، وإن كان معرفة؛ لأنَّه مؤوَّلٌ إمَّا بأنَّه في معنى واحد، وإمَّا بأنَّه مَصْدر، وحدَّ يحدُّ وحدًّا، نحو: وعد يعدُ وعدًا) انتهى.
          وقال الجوهريُّ: منصوبٌ عند أهل الكوفة على الظَّرف، وعند أهل البصرة على المصدر، انتهى.
          قال صاحب «القاموس» شيخ والدي في الُّلغة ⌐: ونصبه على الحال عند البصريِّين لا على المصدر، وغلط الجوهريُّ، انتهى.
          و(الوَقَارُ) بفتح الواو؛ الحلم والرَّزانة والسلميَّة والسَّكون والدَّعة.
          قوله: (حَتَّى يَأْتِيْكُمْ أَمِيْرٌ) أي: يقوم بأمركم وينظر في مصالحكم.
          إن قلت: مقتضى لفظ (حتَّى) أن لا يكون بعد إتيان الأمير الاتِّقاء والوقار والسُّكون؛ لأنَّ حكم ما بعدها خلاف ما قبلها.
          قلتُ: لا نسلِّم أنَّ حكمه خلاف ما قبله، سلَّمنا، لكنَّه غايةٌ للأمر بالاتِّقاء للأمور الثَّلاثة، أو غاية الوقار والسُّكون لا للاتِّقاء، أو غاية الثَّلاث، وبعد الغاية يعني عند إتيان الأمير يلزم ذلك بالطَّريق الأولى، وهذا مَبْنيٌّ على قاعدةٍ أصوليَّةٍ، وهي أنَّ شرط اعتبار مفهوم المخالفة فقدان مفهوم الموافقة، وإذا اجتمعا؛ يُقدَّم المفهوم [الموافق] على المخالف.
          قوله: (عليَّ) هو بتشديد الياء على الأصحِّ من الرِّوايات وقال بعده: قوله: عليَّ؛ أي: على المذكور من الإسلام والنُّصح كليهما، والمراد من المسجد مسجد الكوفة، وذكر المسجد للتَّنبيه على شرف مكان القسم وموضع النُّصح، فيكون أقرب إلى القبول.
          قوله: (إني النَّاصح) فيه إشارة إلى أنه وَفَّى بما بايع به الشَّارع وأن كلامه صادقٌ خالصٌ عن الأغراض الفاسدة.
          قوله: (فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ العَفْوَ) جعل الوسيلة إلى عفو الله بالدُّعاء بأغلب خلال الخير عليه، وما كان يحبُّه في حال حياته من العفو عمَّن أذنب إليه، وكذلك يجزي كلَّ أحدٍ يوم القيامة بأحسن خلقه وعمله في الدُّنيا.
          قوله: (قلتُ) ترك الواو العاطفة؛ لأنَّه إمَّا بدلٌ عن (أتيت) أو استئنافٌ.
          قوله: (وَالنُّصْحِ) مجرورٌ، ومثله يُسمَّى بالعطف التَّلقينيِّ؛ يعني لقَّنه رسول الله صلعم أن يعطف النُّصح على الإسلام، وذلك كقوله تعالى: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتي} [البقرة:124]، وفي بعضها: (والنُّصحَ) بالنَّصب عطفًا على مقدَّرٍ؛ أي: شرط الإسلام والنَّصح.
          قوله: (وَنَزَلَ) أي: عن المنبر، أو معناه: قعد، في مقابله: قام.
          خاتمة:
          (المُغِيْرَةُ بْنُ شُعْبَةَ) بضمِّ الميم وكسرها، اتباعًا للغين كما جاز ذلك أيضًا في رغيف اتباعًا للغين، ومثله مِنْتن بكسر الميم اتِّباعًا أيضًا؛ لأنَّ مُفْعل ليس من الأبنية، ولم يعتدَّ بالنُّون لسكونها، والسَّكن عندهم حاجز غير حصين.