الجمع بين الصحيحين للحميدي مع تعقبات الضياء المقدسي

حديث: لا ضير _أو لا يضير_ ارتحلوا

          549- الحديث الأوَّل: عن أبي رجاءٍ العُطارديِّ عن عمرانَ قال: «كنَّا في سفرٍ مع النَّبيِّ صلعم، وإنَّا أَسْرَينا(1)، حتَّى إذا كنَّا في آخر اللَّيلِ وَقَعْنا وقعةً ولا وَقعةَ عند المسافرِ أحلى منها! فَما أيقَظَنا إلَّا حرُّ الشَّمسِ، فكان أوَّلَ مَنِ استيقظ فلانٌ ثمَّ فلانٌ ثم فلانٌ(2) _يسمِّيهم أبو رجاءٍ، فنسِيَ عوفٌ_ ثمَّ عمرُ بنُ الخطَّابِ الرَّابعُ، وكان النَّبيُّ صلعم إذا نام لم نوقِظْه حتَّى يكونَ هو يستيقظُ؛ لأنَّا لا ندري ما يحدُثُ له في نومهِ، فلمَّا استيقظ عمرُ ورأى ما أصابَ النَّاسَ _وكان رجلاً جَليداً(3)_ كبَّر ورفَع صوتَه بالتَّكبير، فما زال يكبِّرُ ويرفَعُ صوتَه بالتَّكبير حتَّى استيقظَ لصوتِه النَّبيُّ صلعم، فلمَّا استيقظ شكَوا إليه الَّذي أصابَهم، فقال: لا ضَيرَ _أو لا يَضيرُ_ ارتَحِلوا. فارتحَلَ فسارَ غيرَ بعيدٍ، ثمَّ نزَل فدعا بالوَضوءِ فتوضَّأَ، ونودِيَ بالصَّلاةِ فصلَّى بالنَّاسِ، فلمَّا انفَتلَ(4) من صلاتِه إذا هو برجلٍ منعزِلٍ لم يُصَلِّ مع القومِ، فقال: ما منعَك يا فلانُ أن تصلِّيَ مع القومِ؟ قال: / أصابَتْني جنابةٌ ولا ماءَ، قال: عليكَ بالصَّعيدِ(5)، فإنَّه يكفيكَ. ثمَّ سار النَّبيُّ(6) صلعم (7) فاشتكى إليه النَّاسُ مِنَ العطشِ، فنزَل، فدعا(8) فلاناً _كان يسمِّيهِ أبو رجاءٍ، ونَسِيَه عوفٌ_ ودعا عليَّاً فقال: اذْهَبا فابْغِيَا الماءَ. فانطلَقَا، فتَلقَّيَا امرأةً بين مَزادَتَينِ _أو سَطِيحَتَينِ_ من ماءٍ على بعيرٍ لها، فقالا لها: أينَ الماءُ؟ فقالت: عهدي بالماء أمسِ هذه السَّاعةَ ونَفَرُنا(9) خُلُوفٌ(10)، قالا لها: انطلِقي إذَنْ، قالت: إلى أينَ؟ قالا: إلى رسولِ الله صلعم، قالت: الَّذي يقالُ له: الصابئُ(11) ؟ قالا: هو الَّذي تَعنينَ فانطلِقي.
          فجاءَا بها إلى النَّبيِّ صلعم وحدَّثاه الحديثَ، قال: فاستنزَلُوها عن بعيرِها، ودعا النَّبيُّ صلعم بإناءٍ فأفرَغَ فيه مِن أفْواهِ المزادَتَينِ أو السَّطِيحَتَينِ، وأوْكَأَ أفواهَهُما(12) وأطلق العَزَالِي(13)، ونودِيَ في النَّاس: اسْقُوا واسْتَقُوا، فسَقى / مَن شاءَ، واستَقى مَن شاءَ، وكان آخِرَ ذلك أنْ أعطى الَّذي أصابَتْه الجنابةُ إناءً من ماءٍ فقال: اذهَبْ فأَفرِغْهُ عليكَ.
          وهي قائمةٌ تنظُرُ إلى ما يُفعَلُ بمَائها! وايْمُ الله، لقد أُقْلِعَ عنها وإنَّه لَيُخَيَّلُ إلينا أنَّها أشَدُّ مِلْأَةً منها حينَ ابتُدِئَ منها، فقال النَّبيُّ صلعم: اجمَعوا لها(14). فجَمَعوا لها مِن بينِ(15) عجْوةٍ ودقِيقَةٍ وسَوِيقَةٍ، حتَّى جمَعوا لها طعاماً فجعَلوه في ثوبٍ، وحمَلوها على بعيرِها، ووضعَ الثَّوبَ بين يدَيْها، وقال لها: تَعْلَمينَ ما رَزِئنا(16) من مائِكِ شيئاً، ولكنَّ اللهَ هو الَّذي أسْقانا(17). فأتَت أهلَها وقد احتُبِسَت عنهم، قالوا: ما حَبَسَكِ يا فلانةُ؟ قالتِ: العجَبُ! لقِيَني رجلانِ، فذهبا بي إلى هذا الصَّابئِ، ففعَل(18) كذا وكذا، فوالله إنَّه لأسحْرُ النَّاسِ من بينِ هذه وهذه _وقالت بإصبِـُعِـُها الوسطى والسَّبَّابةِ فرفَعتْهما إلى السَّماءِ. تعني السَّماءَ والأرضَ_ أو إنَّه لَرسولُ الله حقَّاً. فكان المسلمون بعدُ يُغيرونَ على مَن حولَها مِن المشركينَ ولا يُصيبون الصِّرْمَ(19) الَّذي هيَ منه، فقالت / يوماً لقَومِها: ما أرَى إلَّا أنَّ هؤلاءِ القومَ يَدَعونَكم عَمْداً، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها، فدخَلوا في الإسلامِ». [خ¦344]
          وفي حديث سَلْمِ بنِ زَرِيرٍ: «إنَّ أوَّل مَنِ استيقظَ أبو بكرٍ، ثمَّ استيقظَ عمرُ، وإنَّه صلعم قال: ارتَحِلوا. فسارَ، حتَّى إذا ابيضَّتِ الشَّمسُ نزَل فصلَّى الغداةَ.
          قال عمرانُ: ثمَّ عجَّلَني في ركْبٍ بين يديهِ نطلُبُ الماءَ...
          وذكَرَهُ إلى أن قال: فشرِبْنا ونحن أربعونَ رجلاً عِطاشاً حتَّى رَوِيْنا، ومَلَأْنا كلَّ قِربةٍ معَنا وإداوةٍ، وغَسلْنا صاحِبَنا، غيرَ أنَّا لم نَسْقِ بَعيراً، وهي تكادُ تتَضرَّجُ بالماءِ. يعني المزادَتَينِ(20)».[خ¦3571]


[1] السُّرَى: سَيرُ الليلِ، يقال: سرى ليلاً وأسرى.
[2] سقط من (ابن الصلاح): (ثم فلان) الأخيرة، واختصره مسلم ورواه البخاري على الوجه الذي أثبتناه من (أبي شجاع).
[3] رجل جَلْد وجَلِيد في جسمه أو في نفسه وجرأته وإقدامه، ومن ذلك الجَلَد: الأرض الغليظة الصُّلبة، ويقال: الجَلَد صلابةُ الجلد كناية عن الجسم والثرى.
[4] في (ابن الصلاح): (انفصل)، واختصره مسلم وما أثبتناه من (أبي شجاع) موافق لرواية البخاري.
[5] الصَّعيد: التراب، والصعِيد: وجه الأرض المستوية والصعيد أيضاً: الطريق وجمعه صُعُدٌ وصُعُداتٌ، كما يقال طريقٌ وطُرُق وطُرُقات.
[6] سقط قوله: (النبي) من (أبي شجاع).
[7] في هامش (ابن الصلاح) في رأس الصفحة: (الثاني عشر من الحميدي).
[8] سقط قوله: (فدعا) من (أبي شجاع).
[9] النَّفَر: جماعةُ القوم، ومنهم من قال: النَّفَر من ثلاثة إلى عشرة.
[10] الحي خُلُوفٌ: أي: غُيَّبٌ، ومعناه [ذهب] الرجال وبقي النساء، وقيل إنَّ ذلك يكون بمعنيين؛ بمعنى المتخلفين المقيمين في الدار ويكون بمعنى الظاعنين حكاه أبو عُبيد في كتاب الأضداد.
[11] الصابئ: المائلُ من دين إلى دين، والجمعُ صُبَاءٌ على وزن مُكَال، وقيل: هو صابٍ منقوصٌ مثل غازٍ، ويُجمعُ صُبًّى وغُزًّى صُبَاة وغُزاة.
[12] وأوكأ أفواهَها: يعني ربط العُليا، والوِكاء: ما يُشَدُّ به ذلك من خيط أو نحوِه.
[13] في هامش (ابن الصلاح): (في «المطالع»: العزالي بكسر اللام).وهي أفواه المزاد السفلى واحدها عزلاء.
[14] زاد في (أبي شجاع): (مرتين)، واختصره مسلم وما أثبتناه من (ابن الصلاح) موافق لرواية البخاري..
[15] سقط قوله: (فجمعوا لها مِن بين) من (أبي شجاع).
[16] مارزئنا: أي: ما أصبنا ولا نقصنا، وأصل الرّزء النقصُ والمصيبة، ويقال: فلان مُرَزَّأ؛ أي: يصيب الناسَ من خيره أو يصاب بنوائبه.
قال محققه: وقوله تعلمين: قال العيني: ضبطه بعضهم بفتح التاء والعين وتشديد اللام، أي اعلمي.ولا حاجة إلى هذا التكلف، وإنّما هو مفردٌ مخاطب مؤنث من باب علِم يعلَم.
[17] في (أبي شجاع): (سقانا)، واختصره مسلم وما أثبتناه من (ابن الصلاح) موافق لرواية البخاري.
[18] زاد في (أبي شجاع): (فيَّ).واختصره مسلم وما أثبتناه من (ابن الصلاح) موافق لرواية البخاري.
[19] الصِّرْم: الطائفة من القوم ينزلون بإبلهم ناحية من الماء، ويقال هم أهل صِرْمَ وصِرْمة، والصِّرْمة القطيع من الإبل نحو الثلاثين والصِّرْمَة أيضا: القطعة من السحاب، وجمعها صِرَمٌ.(ابن الصلاح) نحوه.
[20] وهي تكاد تَنْضَرِجُ بالماء يعني المزادَتَين: أي: تنشقُ لكثرة امتلائِها وتضاغطِ ما بها، والانضراجُ الانشقاق، يقال: انضرجَ البرقُ وتضرَّج تشقّق، وعينٌ مضروجةٌ: واسعة الشِّق، وانضرجت عن البقل لفائفُه انفتحت.؛ وأشار في (ابن الصلاح) أنها نسخة: (سع)، وفي هامشها: (ص: تنضرج)، وقال: (قال شيخنا: كلاهما صحيح فالانضراج هو: الانشقاق، والتضرج: التشقق).