الجمع بين الصحيحين للحميدي مع تعقبات الضياء المقدسي

حديث: كنا معشر قريش قوماً نغلب النساء

          27- التَّاسع: في اعتزال النَّبيِّ صلعم نساءه: عن ابن عبَّاسٍ _من رواية / عبيد الله بنِ عبد الله ابن أبي ثور وعُبيدِ بن حُنين عنه_ وهو في أفراد مسلم من رواية سِمَاكٍ الحنفيِّ عن ابن عبَّاسٍ، وفي ألفاظهم اختلافٌ متقارِب المعنى، وزيادةٌ.
          ففي رواية عُبيد الله عنه أنَّه قال: لم أزل حريصاً على أن أسأل عمرَ بن الخطَّاب عن المرأتين مِن أزواج النَّبيِّ صلعم اللَّتين قال الله ╡: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا (1)} [التحريم:4]حتَّى حجَّ عمرُ وحجَجتُ معه، فلمَّا كان ببعض الطَّريق عدلَ عمرُ وعدَلْت معه بالإداوةِ، فتبرَّز ثمَّ أتاني فسكبتُ على يديه فتوضَّأ، فقلتُ: يا أمير المؤمنين، مَنِ المرأتان من أزواج النَّبيِّ صلعم اللَّتان قال الله ╡: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4] فقال عمر: واعجباً لك يا ابنَ عبَّاسٍ! _قال الزُّهريُّ: كرِه والله ما سأله عنه ولم يكتِمْه، قال:_ هما عائشة وحفصة. ثمَّ أخذ يسوق الحديث، قال:
          «كنَّا معشرَ قريش قوماً نَغلب النِّساء، فلمَّا قدِمنا المدينةَ وجدنا قوماً تغلِبهم نساؤهم، فطفِق(2) نساؤنا يتعلَّمن من نسائهم، قال: وكان منزلي في بني أميَّة بن زيدٍ بالعوالي، فتغضَّبتُ يوماً على امرأتي، فإذا هي تراجعُني، فأنكرتُ أن تراجعَني، فقالت: ما تنكِرُ أن أراجعَكَ؟ فوالله إنَّ أزواج النَّبيِّ صلعم ليُراجِعنَه، وتهجُره إحداهنَّ اليومَ إلى اللَّيل، فانطلقتُ فدخلتُ على حفصةَ، فقلت: أَتُراجِعنَ رسولَ الله صلعم؟! فقالت: نعم، فقلت: أَتهجُره إحداكنَّ اليومَ إلى اللَّيل؟! قالت: نعم، قلت: قد خاب مَن فعل ذلك منكنَّ وخسِرَت! أَفتأمنُ / إحداكنَّ أن يغضب الله عليها لغضبِ رسول الله صلعم فإذا هي قد هلكت، لا تُراجعي رسول الله صلعم، ولا تسأليه شيئاً، وسليني ما بدا لك، ولا يَغُرَّنك أنْ كانت جارتُك(3) هي أوسمَ(4) وأحبَّ إلى رسول الله صلعم منكِ. يريد عائشةَ.
          وكان لي جارٌ من الأنصار، فكنَّا نتناوب النزول إلى رسول الله صلعم، فينزل يوماً وأنزل يوماً، ويأتيني بخَبر الوحي وغيرِه، وآتيه بمثل ذلك، وكنَّا نتحدَّث أنَّ غسَّانَ تَنْعَلُ الخيل لتغزوَنا، فنزل صاحبي ثمَّ أتاني عشاءً، فضرب بابي ثمَّ ناداني فخرجت إليه، فقال: حدث أمرٌ عظيمٌ! فقلت: ماذا، أجاءت غسانُ؟ قال: لا، بل أعظمُ من ذلك وأَهْوَلُ، طلَّق رسول الله صلعم نساءَه! قلت: قد خابت حفصةُ وخسِرَت، قد كنت أظنُّ هذا يوشِك(5) أن يكون، حتَّى إذا صلَّيتُ الصُّبح شَدَدْت عليَّ ثيابي ثمَّ نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي، فقلت: أطلَّقكنَّ رسول الله صلعم ؟ قالت: لا أدري، هو هذا معتزلٌ في هذه المَشرَُبة(6)، فأتيت غلاماً له أسودَ، فقلت: استأذِن لعمرَ؟ فدخل ثمَّ خرج إليَّ، قال: قد ذكرتُك له فصمَتَ، فانطلقتُ حتَّى إذا أتيت المنبر فإذا عنده رَهْطٌ جلوسٌ يبكي بعضُهم، فجلست قليلاً ثمَّ غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت: استأذِن لعمر، فدخل ثمَّ خرج إليَّ، فقال: قد ذكرتُك له فصمَتَ، فخرجت فجلست إلى المنبر، ثمَّ غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت: استأذِن لعمر، فدخل ثمَّ خرج فقال: قد ذكرتُك لهَ فصمتَ، فولَّيت مدبراً، فإذا الغلام يدعوني فقال: ادخُل فقد أذِن لك. /
          فدخلت فسلَّمت على رسول الله صلعم، فإذا هو مُتَّكِئٌ على رُِمالِ(7) حصيرٍ قد أثَّر في جنبه، فقلت: أطلَّقتَ يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه إليَّ فقال: لا، فقلت: اللهُ أكبرُ! لو رأيتَنا يا رسول الله وكنَّا معشرَ قريشٍ نغلبُ النِّساءَ، فلمَّا قدِمنا المدينةَ وجدنا قوماً تغلِبُهم نساؤهم، فطفِق نساؤنا يتعلَّمن من نسائهم، فتغضَّبتُ على امرأتي يوماً فإذا هي تراجعُني، فأنكرتُ أن تراجعَني، فقالت: ما تنكرُ أن أراجعَك؟! فوالله إنَّ أزواج رسول الله صلعم ليراجِعنَه وتهجُره إحداهنَّ اليومَ إلى اللَّيل، فقلت: قد خاب مَن فعل ذلك منهنَّ وخَسِر، أَفتأمنُ إحداهنَّ أن يغضبَ الله عليها لغضب رسول الله صلعم فإذا هي قد هلكَت، فتبسَّم رسول الله صلعم،
          فقلت: يا رسول الله؛ فدخلتُ على حفصةَ، فقلت: لا يغرَّنَّكِ أن كانت جارتُكِ هي أوسمَ وأحبَّ إلى رسول الله صلعم منكِ، فتبسَّم أخرى، فقلت: أستأنِسُ يا رسول الله؟ قال: نعم. فجلستُ فرفَعت رأسي في البيت، فوالله ما رأيتُ فيه شيئاً يردُّ البصرَ إلَّا أَهَبَةً(8) ثلاثةً، فقلت: ادعُ الله أن يوسِّع على أمَّتك، فقد وسَّع على فارسَ والرُّوم وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالسًّا ثمَّ قال: أفي شكٍّ أنت يا ابن الخطَّاب؟ أولئك قومٌ عُجِّلَت لهم طيِّباتُهم في الحياة الدُّنيا. فقلت: استغفرْ لي يا رسول الله.
          قال: وكان أقسم ألَّا يدخل عليهنَّ شهراً من أجل ذلك الحديث حين أفشَته حفصةُ إلى عائشةَ؛ من شدَّة مَوجِدته عليهنَّ، حتَّى عاتبه الله تعالى». /
          قال الزُّهريُّ: فأخبرني عروةُ عن عائشة قالت: «لمَّا مضت تسعٌ وعشرون ليلةً دخل عليَّ رسول الله صلعم بدأ بي، فقلت: يا رسول الله، إنَّك أقسمت ألَّا تدخلَ علينا شهراً، وإنَّك دخلت من تسعٍ وعشرين أَعُدُّهنَّ! فقال: إنَّ الشَّهر تسعٌ وعشرون _وزاد في روايةٍ: وكان ذلك الشَّهر تسعاً وعشرين ليلة_ ، ثمَّ قال: يا عائشة؛ إنِّي ذاكرٌ لكِ أمراً، فلا عليكِ ألَّا تَعجَلي حتَّى تستأمري(9) أبوَيك. ثمَّ قرأ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا...} حتَّى بلغ إلى قوله: {عَظِيمًا} [الأحزاب:28-29] قالت عائشة: قد علم والله أنَّ أبويَّ لم يكونا ليأمراني بفِراقه، فقلت: أَوَفي هذا أستأمرُ أبويَّ! فإنِّي أريد الله ورسولَه والدَّارَ الآخرةَ». [خ¦2468]
          وفيه عن معمر: أنَّ أيُّوب قال له: «إنَّ عائشة قالت: لا تخبِر نساءَك أنَّني اخترتُك، فقال لها النَّبيُّ صلعم: إنَّ الله أرسلني مبلِّغاً ولم يرسلْني مُتعنِّتاً(10)».
          وقال قتادة: {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]: مالت قلوبُكما.
          وفي رواية سِماكٍ: «وذلك قبل أن يؤمَرن بالحجاب»، وفيه دخولُ عمرَ على عائشة وحفصةَ ولَومُه لهما، وقولُه لحفصَةَ: «والله لقد علمتِ أنَّ رسولَ الله صلعم لا يحبُّك، ولولا أنا لطلَّقَك».
          وفيه قول عمر عند الاستئذان في إحدى المرَّات: «يا رباحُ؛ استأذِن لي، فإنِّي أظنُّ أنَّ رسولَ الله صلعم ظنَّ أنِّي جئتُ من / أجل حفصة، والله لَئِن أمَرني أن أضربَ عنقَها لأضربنَّ عنقَها، قال: ورفعتُ صوتي.
          وأنَّه أذِن له عند ذلك وأنَّه استأذن رسول الله صلعم في أن يخبر النَّاس أنَّه لم يطلِّق نساءه فأذِن له، وأنَّه قام على باب المسجد فنادى بأعلى صوته: لم يطلِّق رسولُ الله صلعم نساءه، وأنَّه قال له وهو يرى الغضبَ في وجهه: يا رسول الله؛ ما يشقُّ عليك من شأن النِّساء؟ فإن كنت طلَّقتَهنَّ فإنَّ الله معك وملائكتَه وجبريلَ وميكائيلَ، وأنا وأبو بكرٍ والمؤمنون معك، وقلَّما تكلَّمتُ _وأحمدُ الله_ بكلامٍ إلَّا رجوتُ أن يكون الله يصدِّق قولي الَّذي أقول، ونزلت هذه الآيةُ آيةُ التَّخيير: {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا} الآية [التحريم:5]، وفيه أنَّه قال: فلم أزل أحدِّث حتَّى تحسَّر(11) الغضبُ عن وجهه، وحتى كشَّر فضحك، وكان من أحسن النَّاس ثغراً!.
          وقال: ونزلتُ أتشبَّث بالجِذع، وهو جذعٌ يرقى عليه رسول الله صلعم وينحدِر، ونزل رسول الله صلعم كأنَّما يمشي على الأرض ما يمسُّه بيده، فقلت: يا رسول الله، إنَّما كنتَ في الغُرفة تسعاً وعشرين، قال: إنَّ الشَّهر يكون تسعاً وعشرين.
          قال: ونزلت هذه الآية: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} الآية [النساء:83] قال: فكنتُ أنا الَّذي استنبطت(12) ذلك الأمرَ، فأنزل الله آيةَ التَّخيير».
          وفي حديث ابنِ حُنينٍ: «أنَّ عمر دخل على أمِّ سلمة لقرابته منها فكلَّمها، وأنَّها قالت له: عجباً لك يا ابن الخطَّاب! قد دخلت في كلِّ شيءٍ، حتَّى تبتغيَ أن تدخل بين رسول الله صلعم وأزواجه.
          وأنَّ ذلك كسَرَه عن بعض ما كان يجدُ، / وأنَّه لمَّا قصَّ على رسول الله صلعم حديثَ أمِّ سَلَمة تبسَّم». [خ¦4913]


[1] صغت قلوبكما: مالت.
[2] طفِق يفعل كذا، وظل يفعل كذا، وجعل يفعل، وأخذ يفعل: كلها بمعنى الشروع في الفعل والاشتغال به.
[3] الجارة في حديث عمر: الضَّرَّة أي مشاركَتُكِ في الزوج.(ابن الصلاح) نحوه.
[4] أوسمَ: من الوسامة وهي الجمال والحسن.
[5] الأمر الوشيك: القريب، وأوشك يوشك من القرب والإسراع.(ابن الصلاح).
[6] المَشرَبةُ: الغُرفَةُ، ويقال: مَشرُبةً ومَشرَبةً بضم الراء وفتحها، والجمع مشاربٌ ومشرُبَاتٌ.(ابن الصلاح) و(ش).
[7] الرُِّمال: ما نسجَ من حصيرٍ أو غيره، ويقال: أرمَلْتُ النَّسجَ فهو مُرْمَلٌ كأنَّه أراد أنه لم يكن تحته فراش ولا حائل دون الحصير.وفي هامش (ابن الصلاح): قال لنا الشيخ ذكر المصنف الضم والكسر معاً في (رُِمال) في «غريب الجمع» في مسند أبي موسى.تمت.وانظر الحديث الثاني والثلاثون من المتفق عليه من مسند أبي موسى.
[8] الإهاب: الجلد والجمع أُهُبٌ وأَهَبٌ وأَهَبَةٌ.
[9] الاستئمار: المشاورة في فعل الشيء أو تركه، يقال: استأمرَه يستأمرُه إذا شاوره في ذلك.
[10] العَنَت: المشقة، والمُعْنِتُ والمُتَعَنِّتُ المُشدِّد الذي يكلف غيره ما يصعب عليه أو ما يقصد إلى إظهار عَجزِهِ فيه.
[11] تَحَسَّر الغضب عن وجهه: انكشف.
[12] الاستنباط: الاستخراج والبحث، ويقال: استنبط الماء من البئر في أول ما يظهر عند الحفر.