الجمع بين الصحيحين للحميدي مع تعقبات الضياء المقدسي

حديث: إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس

          26- الثَّامن: حديث السَّقيفة: عن ابن عبَّاسٍ _من رواية عُبيدِ الله بنِ عبدِ الله بنِ عتبةَ بنِ مسعودٍ عنه_ قال: كنت أُقرِئ رجالاً من المهاجرين منهم عبدُ الرَّحمن بن عوفٍ، فبينا أنا في منزلهِ بمنىً وهو عند عمرَ بن الخطَّاب في آخر حَجَّة حجَّها، إذ رجع إليَّ عبدُ الرَّحمن فقال: لو رأيتَ رجلاً أتى أميرَ المؤمنين اليومَ فقال: هل لك يا أميرَ المؤمنين في فلان؟ يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً، فوالله ما كانت بيعة أبي بكرٍ إلَّا فَلْتةً(1)، فغضب عمرُ ثمَّ قال: إنِّي إن شاء الله لقائمٌ العشيَّةَ في النَّاس فمُحذِّرُهم هؤلاءِ الَّذين يريدون أن يغصبوهم أمرَهم.
          قال عبد الرَّحمن: فقلت: يا أميرَ المؤمنين، لا تفعلْ؛ فإنَّ الموسِم يجمعُ رَعاعَ(2) النَّاس وغَوغاءهم، وإنَّهم هم الَّذين يَغلِبون على قُربك حين تقوم في النَّاس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالةً يَطير بها أولئك عنك كلَّ مُطيَّرٍ، وألَّا يَعوها وألَّا يضعوها مواضِعَها، فأمهِلْ حتَّى تقدَمَ المدينة، فإنَّها دار الهجرة والسُّنَّة، فتخلُصَ(3) بأهل الفقه وأشراف النَّاس، فتقول ما قلتَ متمكِّناً، فيعيَ أهل العلم مقالَتك ويضعوها على مواضعها، قال: فقال عمر: أمَا والله إن شاء الله لأقومنَّ بذلك أوَّلَ مقامٍ أقوْمُه بالمدينة.
          قال ابن عبَّاسٍ: فقدِمنا المدينةَ في عقب ذي الحِجَّة، فلمَّا كان يومُ الجُمعة / عجَّلتُ بالرَّوَاح حينَ زاغتِ الشَّمس حتَّى أجِدُ سعيدَ بن زيدِ بنِ عمرِو(4) بنِ نُفَيلٍ جالسًّا إلى رُكن(5) المنبر، فجلستُ حَذْوَه تمسُّ رُكبَتي رُكبتَه، فلم أَنشبْ أن خرجَ عمرُ بن الخطَّاب(6)، فلمَّا رأيتُه مُقبِلاً قلتُ لسعيدِ بنِ زيدِ بنِ عمرِو بنِ نُفَيلٍ: لَيقولَنَّ العَشيَّة على هذا المنبر مَقالةً لم يقُلْها منذُ استُخلِفَ، فأنكر عليَّ وقال: ما عسى أن يقولَ ما لم يقُلْ قبلَه؟! فجلس على المنبر، فلمَّا سكتَ المؤذِّنُ قامَ فأثنى على الله بما هو أهلُه، ثمَّ قال: أمَّا بعدُ؛ فإنِّي قائلٌ لكم مَقالةً قد قُدِّرَ أن أقولَها، لا أدري لعلَّها بين يدَي أَجَلي، فمَن عقَلها ووعاها فليُحدِّث بها حيث انتهت به راحلتُه، ومَن خشي ألَّا يعقِلها فلا أُحِلُّ لأحدٍ أن يكذِب عليَّ:
          «إنَّ الله ╡ بعث محمَّداً بالحقِّ، وأنزل عليه الكتاب، فكان ممَّا أنزل الله آيةُ الرَّجم، فقرأناها وعقلناها ووَعيناها، ورجمَ رسولُ الله صلعم ورجمنا بعدَه، فأخشى إن طال بالنَّاس زمانٌ أن يقول قائلٌ: والله ما نجدُ آيةَ الرَّجم في كتاب الله، فيَضلِّوا بترك فريضةٍ أنزلها الله، فالرَّجمُ في كتاب الله حقٌّ على مَن زنى إذا أُحصِنَ من الرِّجال والنِّساء، إذا قامت البيِّنة أو كان الحَبَلُ أو الاعترافُ.
          ثمَّ إنَّا كنَّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله: (ألَّا ترغَبُوا عَن آبائِكُم فإنَّه كُفرٌ بكُم أن تَرغَبُوا عَن آبائِكُم). ألا وإنَّ رسول الله صلعم قال: لا تُطروني(7) كما أُطرِيَ عيسى ابنُ مريمَ، وقولوا: عبدُ الله ورسولُه». /
          ثمَّ إنَّه بلغني أنَّ قائلاً منكم يقول: والله لو مات عمرُ بايعتُ فلاناً، فلا يَفْتَرِ امرؤٌ أن يقول: إنَّما كانت بيعةُ أبي بكرٍ فلتةً وتمَّت، ألا وإنَّها قد كانت كذلك، ولكنَّ الله وقى شرَّها، وليس فيكم من تُقطَع إليه الأعناقُ مثلُ أبي بكرٍ(8)، وإنَّه كان مِن خيرنا حين توفِّي رسول الله صلعم؛ إنَّ الأنصار خالفونا واجتمعوا بأَسْرِهم في سَقيفة بني ساعِدةَ، وخالف عنَّا عليٌّ والزُّبير ومَن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكرٍ، فقلت لأبي بكرٍ: يا أبا بكرٍ؛ انطلِقْ بنا إلى إخواننا هؤلاءِ من الأنصار، فانطلقنا نريدهم، فلمَّا دَنَونا منهم لقيَنا منهم رجلان صالحان، فذكرا ما تمالأَ عليه القومُ(9)، فقالا: أين تريدون يا معشرَ المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخوانَنا هؤلاءِ من الأنصار، فقالا: لا عليكم، لا تقربوهم، اقضوا أمرَكم، فقلت: والله لنأتينَّهم فانطلقنا حتَّى أتيناهم في سقيفة بني ساعدةَ، فإذا رجلٌ مُزَمَّلٌ(10) بين ظَهرانَيهم(11)، فقلت: مَن هذا؟ قالوا: هذا سعدُ بن عبادةَ، فقلت: ما له؟ قالوا: يوعَك(12).
          فلمَّا جلسنا قليلاً تشهَّد خطيبُهم وأثنى على الله بما هو أهلُه، ثمَّ قال: أمَّا / بعدُ؛ فنحن أنصار الله، وكتيبةُ(13) الإسلام، وأنتم معشرَ المهاجرين رَهْطٌ منَّا، وقد دَفَّت دافَّةٌ(14) من قومكم، فإذا هم أرادوا أن يختزِلونا(15) مِن أهلنا، وأن يَحضُنونا(16) من الأمر. فلمَّا سكت أردتُ أن أتكلَّم، وكنت زوَّرت(17) مقالةً أعجبتني أريد أن أقدِّمها بين يدَي أبي بكرٍ، وكنتُ أُداري(18) منه بعض الحَدِّ(19)، فلمَّا أردت أن أتكلَّم قال أبو بكرٍ: على رِسْلك(20)، فكرِهت أن أُغضِبَه، فتكلَّم أبو بكرٍ، فكان أَحلمَ منِّي وأَوقرَ، والله ما ترك من كلمةٍ أعجبتني في تزويري إلَّا قال في بَديهتِه(21) مثلَها أو أفضلَ منها حتَّى سكتَ، فقال: ما ذكرتُم فيكم من خيرٍ فأنتم له أهلٌ، ولن تعرف العربُ هذا الأمر إلَّا لهذا الحَيِّ من قريشٍ، هم أوسَط(22) العرب نسباً وداراً، وقد رضيتُ لكم أحدَ هَذين الرَّجُلين، فبايعوا أيَّهما شئتم. فأخذ بيدي وبيدِ أبي عُبيدةَ / بنِ الجرَّاح وهو جالسٌ بيننا، فلم أكرَه ممَّا قال غيرَها، كان والله أنْ أُقَدَّمَ فتُضرب عُنُقي لا يقربُني ذلك من إثمٍ أحبَّ إليَّ من أن أتأمَّر على قومٍ فيهم أبو بكرٍ! اللَّهمَّ إلَّا أن تسوِّل لي نفسي عند الموت شيئاً لا أجِدُه الآن.
          فقال قائلٌ من الأنصار: أنا جُذَيلُها(23) المحكَّكُ وعُذَيقُها(24) المرَجَّبُ(25)، منَّا أميرٌ ومنكم أميرٌ يا معشرَ قريش، فكثُر اللَّغَطُ وارتفعت(26) الأصواتُ حتَّى فَرِقتُ من الاختلاف، فقلتُ: ابسُطْ يدَك يا أبا بكرٍ، فبايعتُه وبايعه المهاجرون، ثمَّ بايعَتْه الأنصار، ونَزَونا(27) على سعد بنِ عبادةَ، فقال قائلٌ منهم: قتلتُم سعدَ بن عبادة! فقلت: قتل اللهُ سعد بنَ عبادة!.
          قال عمر: وإنا والله ما وجَدنا فيما حضرنا من أمرِنا أقوى من مبايعةِ أبي بكرٍ، خشينا إن فارقْنا القومَ ولم تكن بيعةٌ أن يُبايعوا رجلاً منهم بعدَنا، فإمَّا تابعناهم على ما لا نرضى، وإمَّا أن نخالفَهم فيكونَ فسادٌ. فمن بايع رجلاً على / غير مَشورةٍ من المسلمين فلا يُبايعْ هو ولا الَّذي بايعَه؛ تَغِرَّةَ(28) أن يُقتَلا. [خ¦6830]
          زاد في رواية البَرقانيِّ بالإسناد الَّذي أخرجه به البخاريُّ، [قال ابن شهابٍ: فأخبرني عروة بن الزُّبير أنَّ الرَّجلين اللَّذين لَقوهما: عُوَيم بن ساعدة، ومَعن بن عَدي، فأمَّا عُوَيم بن ساعدة فهو الَّذي بلغنا أنَّه قيل لرسول الله صلعم: مَن الَّذين قال الله فيهم: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]؟ فقال رسول الله صلعم: «نِعْمَ المرءُ منهم عُوَيم بن ساعدةَ»، ولم يبلغنا أنَّه ذكر منهم غيرَ عويمِ بن ساعدة، وأمَّا معن بن عدي فبلغنا أنَّ النَّاس بَكَوا على رسول الله صلعم حين توفَّاه الله تعالى وقالوا: لَوَدِدنا أنَّا مُتنا قبلَه، نخشى أن نُفتَتن بعدَه، فقال معن بن عدي: لكنِّي والله ما أحبُّ أنِّي مِتُّ قبلَه حتَّى أصدِّقَه مَيتاً كما صدَّقتُه حيًّا. فقُتِلَ معن بن عدي باليمامة يومَ مُسيلمة الكذَّاب].
          هو عند مسلمٍ مختصَرُ حديث الرَّجم.
          وأفرد البخاري منه في موضعٍ آخرَ من كتابه قولَه ◙ : «ولا تُطروني(29) كما أَطرَت النَّصارى عيسى ابنَ مريم».


[1] كان هذا الأمر فَلْتَةً: إذا كان فجأةً لم يتقدمْه تدبرٌ له ولا تشاورَ فيه.
[2] الرَّعاع: السَّفلة وأخلاطُ الناس، والغوغاء مثلُه.
[3] فتخلُص بأهل الفقه: أي تتفرد بهم.
[4] سقط من (ابن الصلاح): (بن عمرو).
[5] في هامش (ش): (آخر الجزء الثاني من خط الحميدي).
[6] سقط من هنا في (ش) واستمر السقط إلى قوله: (اللغط وارتفعت).
[7] الإطراءُ: الإفراط في المدح والتجاوز فيه الذي لا يؤمن فيه الكذب ووصف الممدوح بما ليس فيه.
[8] وليس فيكم من تُقطَع إليه الأعناقُ مثلُ أبي بكر: أي ليس فيكم سابقٌ إلى الخيرات تُقطَع أعناقُ مسابقيه سبقاً إلى كلِّ خير؛ حتى لا يَلحق شأوَه أحدٌ مثلُ أبي بكر، ويقال للفرس الجواد إذا سبق: تَقَطَّعت أعناقُ الخيل في مسابقته فلم تُطِقْه، كأنهم كَنَّوا بتقطيع الأعناق عن المشقة في تكلُّفِ السَّبْقِ الذي لم ينالوه.(ابن الصلاح) نحوه.
[9] تمالأَ القوم على الأمر: إذا اجتمع رأيهم عليه واتفقوا فيه، والممالأة المعاونة أيضاً.(ابن الصلاح) نحوه.
[10] المُزَمَّل: المغطَّى المُدثَّر بثوبٍ أو غيرِه.
[11] يقال نزل بين ظهرانَيهم وظهرَيهم ولا يقال بكسر النون: أي وسْطهم وفيما بينهم.
[12] وُعِكَ الرجل يوعَكُ: إذا أخذته الحمى، وأصل الوعك الشدة والتعب.
[13] الكتيبة: القطعة المجتمعة من الجيش.(ابن الصلاح).
[14] دفَّت دافَّةٌ تدِفُّ دفيفاً: جاءت، وأصل الدَّفيف سيرٌ في لين.(ابن الصلاح).
[15] خزلَه يخزُلُه: إذا قطعه عن مراده.(ابن الصلاح).
[16] حضنتُ الرجل عن الأمر: حَضْناً وحَضَانةً إذا نحيتَه عنه وانفردتَ به دونه، وأصل الحضنِ الانفراد بتربية المحضون.(ابن الصلاح) نحوه.
[17] زوَّرتُ في نفسي كلاماً: أي هيَّأتُه وأحكمتُه لأذكره.(ابن الصلاح).
[18] المدارأة: المدافعة بلين وسكون مهموز، وهو بغير الهمز من الحيل والخديعة، ومن أهل اللغة من سوَّى بينهما.(ابن الصلاح) نحوه.
[19] الحَدُّ والحِدَّة: من الغضب، يقال: حدَّ يحُدُّ حدَّاً إذا غضب.(ابن الصلاح) نحوه.
[20] الرَّسل: بفتح الراء: الرفق وترك الاستعجال، وبكسر الراء: اللين، ومنهم من قال بالكسر فيهما.(ابن الصلاح) نحوه.
[21] البديهة: ما قيل أو فُعل أولاً على عجل دون تقدُّمِ فكرةٍ فيه.
[22] الواسطة والأوسَط والوسَط: الأشرف والأفضل والأعدل، ويقال ضربه وسَطَ رأسه بفتح السين، وجلستُ وسْطَ القوم بالسكون.
[23] الجَذْل: أصل الشجرة المقطوع، وقد يسمى العود جَذْلاً، ويقال: جِذْلٌ وجَذْلٌ بكسر الجيم وفتحها وتصغيرُه جُذيل، وقوله: أنا جُذيلُها المُحَكَّك: أي يُستشفى برأيي وثباتي عند الشدائد التي أحضرها، وأصله العود يُنصب للإبل الجربى فتحتكُّ به تخفيفاً لما بها ويثبُتُ العود لها على كثرة تردُّدها واعتمادها عليه.(ابن الصلاح) نحوه.
[24] العَذق بالفتح: النخلة وتصغيره عُذيق، وأما العِذق بكسر العين الكِبَاسة وهو العُرجون.
[25] التَّرجيب: أن تُدعمَ الشجرةُ إذا كثر حملها لئلا تتكسر أغصانها اهتماماً بها وشفقةً على حَملها، وقد تُرَجَّبُ النخلةُ إذا خيف عليها لطولها أو لكثرة حملها بأن تُعمَدَ ببناءٍ من حجارةٍ، وقد يكون ترجيبُها أيضاً بأن يُجعل حولها شوكٌ لئلا يرقى إليها راقٍ، وقد تُعمد بخشبةٍ ذاتِ شعبتين وتسمى أيضاً هذه الخشبة الرُّجْبة، وأصل التَّرجيب التَّعظيم، يقول: إنه مقصودٌ بالتعظيم له والائتمامِ به فيُسْتَزادُ منه ويشاوَرُ فيه.
[26] هنا انتهى السقط من (ش).
[27] النَّزو: الوثْب.
[28] التَّغِرَّةُ: من التَّغرِير كالتعلِّة من التعليل، فقوله: تَغِرَّةَ أن يُقتلا، أي حذارَ أن يُقتلا وخوفاً من وقوع الفتنة فيؤول الأمر إلى القتل إذا لم يكن عن اتفاق يؤمن معه الفتنة.(ابن الصلاح) نحوه.
[29] الإطراء: الإفراط في المدح.