الجمع بين الصحيحين للحميدي مع تعقبات الضياء المقدسي

حديث: أقبل رسول الله حتى قدم مكة فبعث

          2770- الرَّابع والثَّمانون بعد المئة: في فتح مكَّة: عن عبد الله بن رباح قال: وفدت وفودٌ إلى معاوية وذلك في رمضان، فكان يصنع بعضنا لبعضٍ الطَّعام، فكان أبو هريرةَ ممَّا يكثر أن يدعونا إلى رَحله، فقلت: ألا أصنع طعاماً فأدعوهم إلى رحلي، فأمرت بطعامٍ يُصنع، ثمَّ لقيت أبا هريرةَ من العشيِّ فقلت: الدَّعوة عندي اللَّيلة، فقال: سبقتني؟ فقلت: نعم، فدعوتهم، فقال أبو هريرةَ: ألا أعلمكم بحديثٍ من حديثكم يا معشر الأنصار؟ ثمَّ ذكر فتح مكَّة، فقال: «أقبل رسول الله صلعم حتَّى قدم مكَّة، فبعث الزُّبير على إحدى المُجَنَّبَتَين(1)، وبعث خالداً على المُجَنَّبَةِ الأخرى، وبعث أبا عبيدة على الحُسَّر(2)، فأخذوا بطن / الوادي و رسول الله صلعم في كتيبته قال فنظر فرآني، فقال: أبو هريرةَ؟ فقلت: لبَّيك يا رسول الله، قال: لا يأتيني إلَّا أنصاريٌّ. _ومن الرُّواة من قال: اهتف(3) لي بالأنصار_ قال: فأطافوا به، ووبَّشت قريش من أوباشٍ لها(4) وأتباع، فقالوا: نقدِّم هؤلاء، فإن كان لهم شيءٌ كنَّا معهم، وإن أُصيبوا أعطينا الَّذي سُئِلنا، فقال رسول الله صلعم: ترون إلى أوباش قريش وأتباعهم؟ ثمَّ قال بيديه إحداهما على الأخرى ثمَّ قال: حتَّى توافوني بالصَّفا. قال: فانطلقنا، فما شاء أحدٌ مِنَّا أن يقتل أحداً إلا قتله، وما أحدٌ منهم يوجِّه إلينا شيئاً، قال: فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله، أُبيدت خضراء قريش(5)، لا قريش بعد اليوم، قال: مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. فقالت الأنصار بعضهم لبعضٍ: أمَّا الرَّجل فأدركته رغبةٌ في قومه ورأفةٌ بعشيرته، قال أبو هريرةَ: وجاء الوحي، وكان إذا جاء لا يخفى علينا، فإذا جاء فليس أحدٌ يرفع طرفه إلى رسول الله صلعم حتَّى ينقضي الوحي، فلمَّا قضي الوحي قال رسول الله صلعم: يا معشر الأنصار. قالوا: لبَّيك يا رسول الله، قال: قلتم: أمَّا الرَّجل فأدركته رغبةٌ في قريته(6) ؟ قالوا: قد كان ذاك، قال: كلا، إنِّي عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، المحيا محياكم، والممات / مماتكم.
          فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: والله ما قلنا الَّذي قلنا إلَّا الضَّنَّ(7) بالله ورسوله، فقال رسول الله صلعم: إنَّ الله ورسوله يصدِّقانكم ويعذرانكم. قال: فأقبل النَّاس إلى دار أبي سفيان، وأغلق النَّاس أبوابهم، قال: وأقبل رسول الله صلعم حتَّى أقبل إلى الحجر فاستلمه(8)، ثمَّ طاف بالبيت، قال: فأتى على صنمٍ إلى جانب البيت كانوا يعبدونه، قال: وفي يد رسول الله صلعم قوسٌ وهو آخذ بسِية القوس(9)، فلمَّا أتى على الصَّنم جعل يطعُن في عينه ويقول: جاء الحقُّ وزهق الباطل. فلمَّا فرغ من طوافه أتى الصَّفا فَعَلا عليه حتَّى نظر إلى البيت ورفع يده، فجعل يحمد الله ويدعو ما شاء الله أن يدعو».
          وفي حديث بهز بن أسد نحوه، وزاد: ثمَّ قال بيديه إحداهما على الأخرى: «احصدوهم حصداً».
          وفيه: «قالوا: قلنا ذلك يا رسول الله، قال: فما اسمي إذاً، كلَّا إنِّي عبد الله ورسوله».
          وفي حديث حَمَّاد بن سلمة عن ثابت: أنَّ عبد الله بن رباح قال: وفدنا إلى معاوية بن أبي سفيان وفينا أبو هريرةَ فكان كلُّ رجلٍ مِنَّا يصنع طعاماً يوماً لأصحابه، فكانت نوبتي، فقلت: يا أبا هريرةَ اليوم يومي، فجاؤوا إلى المنزل ولَم يدرك طعامُنا، فقلت: يا أبا هريرةَ لو حدَّثتنا عن رسول الله صلعم حتَّى يدرك طعامُنا، فقال: «كنَّا مع رسول الله صلعم يوم الفتح، فجعل خالد ابن الوليد على المُجَنِّبَة اليمنى، وجعل الزُّبير على المُجَنِّبَة اليسرى، وجعل أبا عبيدة على البياذقةِ وبطنِ الوادي، فقال: يا أبا هريرةَ ادع لي الأنصار. فدعوتهم، / فجعلوا يهرولون، فقال: يا معشرَ الأنصار، هل ترون أوباش قريش؟ قالوا: نعم، قال: انظروا إذا لقيتموهم غداً أن تحصدوهم حصداً. وأحفى بيده(10)، ووضع يمينه على شماله، وقال: موعدكم الصَّفا. قال: فما أشرف يومئذٍ لهم أحدٌ إلَّا أناموه، قال: وصعد رسول الله صلعم الصَّفا وجاءت الأنصار فأطافوا بالصَّفا، فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله، أبيدت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم، قال أبو سفيان: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السِّلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، فقال رسول الله صلعم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السِّلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن. فقالت الأنصار: أمَّا الرَّجل فقد أخذته رأفةٌ بعشيرته ورغبةٌ في قريته، ونزل الوحي على رسول الله صلعم قال: قلتم: أمَّا الرَّجل فقد أخذته رأفةٌ بعشيرته ورغبةٌ في قريته، ألا فما اسمي إذاً _ثلاث مرَّاتٍ_ أنا محمَّد عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم. قالوا: والله ما قلنا إلَّا ضَنَّاً بالله وبرسوله، قال: فإنَّ الله ورسوله يصدِّقانكم ويعذرانكم».


[1] المُجَنَّبة: الكتيبة، وهي قطعة من العساكر تسير في أحد الجانبين من العسكر، والمُجَنَّبةُ اليمنى هي الميمنة والمُجَنَّبة اليسرى هي الميسرة، وما كان من ذلك في الوسط فهو القلب.
[2] بعثَ أبا عبيدةَ على الحُسَّر فأخذوا بطن الوادي: كذا عندنا فيما رأينا من رواية أصحاب الحديث والحاسر في الحرب هو الذي لا درعَ له ولا مِغْفر، وفي روايةٍ: «وجعل أبا عبيدة على البَياذِقة وبطنِ الوادي» قيل: هم الرَّجَّالة سُمُّوا بياذِقة لخفة حركتهم وسرعة تقلُّبِهم إذ لم يتكلَّفوا حمْلَ ثقيلِ السلاح، وروى بعض أصحاب الغريب: «أنّه بعث أبا عبيدة على الحُبَّسِ» بالباء قبل السين، وقال: هم الرَّجَّالة سُمُّوا بذلك لتَحبُّسِهم عن الرُّكبان وتأخُّرِهم، قال: وأحسب الواحد حبيساً فعيلٌ بمعنى مفعول، قال: ويجوز أن يكون حابساً؛ كأنَّه يحبِس مَن يسير من الركبان بمسيرِه.
[3] هتَف يَهْتِف هَتْفاً: نادى، والهَتْفُ: الصوت.
[4] وبَّشتْ قريش من أوباشٍ لها: أي؛ جمعت لها جموعاً من قبائل شتى، والأوباشُ والأوشابُ الأخلاط.
[5] أُبيدت خضراءُ قريش: أُهلكت واستؤصلت، وأفنيت خضراء قريش: سوادها ومعظمها وجماعتها، والعرب تعبر بالسواد عن الكثرة، ومنه قولهم: عليك بالسواد الأعظم؛ أي: الجماعة الجمَّة الكثيرة المحمودة.
[6] في (الحموي): (قومه)، وما أثبتناه من (الحموي) موافق لنسختنا من رواية مسلم.
[7] الضَّنُّ: البخل والشح، ويقال: ضنِنْت أَضَنَّ ضنانة وضنَنت بفتح النون أضِنُّ لغة.
[8] الاستلامُ: لمسُ الحَجر باليد.
[9] سِيَةُ القوسِ: طرفها.
[10] أَحفى بيده: قيل: أشار بحافتها وضعاً للحصد والقتل.