الجمع بين الصحيحين للحميدي مع تعقبات الضياء المقدسي

سبب ومنهج تصنيف الكتاب

          وحين استقرَّ ذلك وانتشر، وسار مَسير الشَّمس والقمر، أردتُ تعجيلَ الفائدة لنفسي وتسهيلَ الوصول إلى سُرعة المطلوب ذخيرةً لمطالَعتي وحفظي والأخذَ بحظٍّ من التقريب في التبليغ، يَنتفع به مَن سِواي، وأحظى به عند مولاي، فاستخرتُه تعالى وجلَّ، وسألته العون والتأييد، على تجريدِ ما في هذين الكتابين من متون الأخبار ونصوص الآثار؛ إذ قد صحَّ الانقياد للإسناد من جمهور الأئمَّة النُّقاد، وتلخيصِ ذلك في كتابٍ واحدٍ، مع جمع مفترقِها، وحفظ تراجمها. /
          ولم أذكر من الإسناد في الأكثر إلَّا التَّابعَ عن الصَّاحب، أو مَن روى عنه ممَّا يتعلق بالتراجِم للمعرفة به، ولا مِن المُعَادِ إلَّا ما تدعو الضرورة إليه لزيادة بيانٍ، أو لمعنىً يتصل بما لا يقع الفهم إلَّا بإيراده.
          وربَّما أضفنا إلى ذلك نُبَذاً ممَّا تنبَّهنا عليه من كتب أبي الحسن الدارقطنيِّ، وأبي بكرٍ الإسماعيليِّ، وأبي بكرٍ البَرقانيِّ(1)، وأبي مسعود الدِّمشقيِّ، وغيرِهم من الحفَّاظ الَّذين عُنُوا بالصَّحيح ممَّا يتعلَّق بالكتابَين؛ من تنبيهٍ على غرضٍ، أو تتميمٍ لمحذوفٍ، أو زيادةٍ في شرحٍ، أو بيانٍ لاسمٍ أو نسبٍ، أو كلامٍ على إسنادٍ، أو تتبُّعٍ لوهم بعض أصحاب التعاليق في الحكاية عنهما، ونحو ذلك من الغوامِض الَّتي يقف عليها مَن ينفعه الله تعالى بمعرفتها إن شاء الله تعالى.
          وجمَعنا حديثَ كلِّ صاحبٍ مذكورٍ فيهما على حِدة، ورتَّبناهم على خمس مراتبَ، فبدأنا بمُسند العشرة، ثمَّ بالمقدَّمين بعد العشرة، ثمَّ بالمكثرين(2)، ثمَّ بالمقلِّين(3)، ثمَّ بالنِّساء، وميَّزنا المتَّفق عليه من كلِّ مسندٍ على حِدة، وما انفرد به كلُّ واحدٍ منهما على حِدةٍ، ولم نُراعِ الانفراد بالرُّواة، وإنَّما قصدنا إلى الانفراد / بالمتون وإن كان الحديث من رواةٍ مختلفين عن ذلك الصَّاحب أو عن الرُّواة عنه؛ لأن الغرض معرفةُ اتِّفاق هذين الإمامين على إخراج المتن المقصود إليه في الصَّحيح، أو معرفةُ مَن أخرجه منهما وشهد بتصحيحه؛ لتقومَ الحُجَّة به.
          وتتبعنا مع ذلك زيادة كلِّ راوٍ في كل متنٍ، ولم نُخِلَّ بكلمةٍ فما فوقَها تقتضي حكماً أو تفيد فائدةً، ونسبناها إلى مَن رواها إلَّا أن يكون فيما أوردناه معناها أو دِلالةٌ عليها، وجمعنا كلَّ مَعنىً مقصودٍ من ذلك ومن التراجم فيه في مكانٍ واحدٍ في كل مسندٍ، وربَّما أوردنا المتن من ذلك بلفظ أحدهما، فإن اختلفا في اللفظ واتَّفقا في المعنى أوردناه باللفظ الأتمِّ، وإن كانت عند أحدهما فيه زيادة _وإن قلَّت_ نبَّهنا عليها وتوخَّينا الاجتهاد في ذلك، والمعصوم مَن عصم اللهُ ╡.
          وبهذا الَّذي أحكمناه في الجمع بين الصَّحيحين لهما والتَّرجمة عنهما يستبين للناظر المتيقِّظ، والعارف المنصِف، الَّذي نوَّر الله بالمعرفة قلبَه، وهدى إلى الإقرار بها لسانَه، تقدُّمهُما في الاحتياط والاجتهاد، واحتفالُهما في الجمع والإيراد، واقتصارُهما على المهمِّ المستَفاد، وأنَّ جميع ما جمعاه من ذلك وانتقداه دليلٌ على أنَّ أكثره عن جماعةٍ لا عن واحدٍ.
          وهذان الكتابان(4) يشتملان على فصولٍ من أصول الدين، لا غِنى لمن أراد الاختصاص بعلوم الشريعة عن معرفتها، وهي ما فيهما من الاعتبار بأخبار الابتداء والأنبياء، وما كان في بني إسرائيل من الأنباء، وأيامِ الجاهليَّة الجهلاء، ومبادئ النبوة وما تلاها من السِّير والمعجزات، وجُمَلِ الاعتقادات، ولوازم الطاعات، والنَّهي عن المنكرات، وذكرِ الغزوات، ونزولِ الآيات وثوابها، وأبوابِ الفقه والتفسير والتعبير وبيانِها، وفضائلِ الصَّحابة وخصائصِها، ورغائب الزُّهد في الدُّنيا والعمل للأخرى ومراتبِها، وما في ملكوت السَّماوات والأرض من / قُدرة الله تعالى وشواهدِها، وما يتصل بذلك من المواعظ ورقائقها، وما يكون من الفتن والأشراط إلى يوم الدين(5) وأنواعِها ثمَّ ما يكون من البعث والنشور، وبعدَ الحساب من الثواب والعقاب، والاستقرار في الجنَّة أو النَّار، وصفاتهما وحظوظ أهليهما منهما وما يتعلق بذلك، وتتمة ذلك تعديلُهما لرواة هذه الأصول المخرَّجة في الكتابين، وحكمهما بذلك فيما أفصحا به في الترجمتين؛ لأنَّ الصَّحة لا يستحقُّها المتن إلَّا بعدالة الرَّاوي، وشهادةُ هذين الإمامين أو أحدِهما بذلك وتصحيحُهما إيَّاه حكمٌ يلزَم قَبولُه، وتبليغٌ يتعيَّن الانقيادُ له، ونِذارةٌ يُخاف عاقبةُ عصيانها، قال الله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122].
          وهذه مناهجُ الباحث المتَدَيِّن، قد قرَّبناها له وسهَّلناها عليه، ونقلنا نصوصَها مُفردَةً إليه، ووضعنا مجموع أشتاتها وتراجمِها منتظَمةً بين يديه، وزِدنا عليها مع جمع المتفرِّق، وحذفِ ما يصعُب حفظُه من الطُّرق؛ تمييزَ ما اتفقا عليه منها، أو انفرد به أحدهما، والاقتصارَ من التكرار على ما لا بدَّ من الاقتصار عليه، وعددَ ما لكلِّ صاحبٍ من الأحاديث المخرَّجة فيهما، وقمنا له مَقام التَّرجمة عنهما في ذلك كلِّه.
          واقتفينا في ترتيب هذين الكتابين على أسماء الصَّحابة ♥ آثارَ مَن تقدَّم قبلَنا من الأئمَّة المخرِّجين على الصَّحيح وأصحابِ التعاليق؛ كأبي بكرٍ البَرقانيِّ، وأبي مسعود الدِّمشقيِّ، وخلفٍ الواسطيِّ، وغيرِهم من الأئمَّة رحمة الله عليهم، وإنَّما فعلوا ذلك ليتعجَّل الناظر في الأحاديث معرفةَ من رواها من الصَّحابة، ومن رواها عنهم، ومعرفةَ ما يلحَق بها ممَّا هو على شرط إسنادها، أو / ما يقعُ إلى الباحث عنها ممَّا يريد اعتبارَه من الصَّحيح، فيقصدَ بما يقعُ له إلى المجموع من حديث ذلك الصَّاحب، فيقرِّبَ عليه المطلبَ الَّذي قصده، والمذهبَ الَّذي ذهب إليه، ويكونَ أخفَّ عليه من طلبه لذلك في أبوابٍ ربما أخرجه أحدهما في غيرها.
          وبما صدَّرنا به أوَّلاً من النُّصوص وبأمثالها؛ أيقنَّا أنَّ العِلمَ المقتدَى به في الدِّين، والظَّهيرَ المحتجَّ به بين المختصمِين؛ هو ما صحَّ عمَّن صحَّت قواعدُ أعلامِه، وأنارت شواهدُ صدقِه في إعلامِه؛ محمَّدٍ رسولِ الله صلعم ولم نجد من الأئمَّة الماضين ♥ أجمعين مَن أفصحَ لنا في جميع ما جمعَه بالصَّحَّة إلَّا هذين الإمامين، وإن كان مَن سواهما من الأئمَّة قد أفصح بالتَّصحيح في بعضٍ فقد علَّل في بعضٍ، فوجب البِدارُ إلى الاشتغال بالمجموع المشهور على صحة جميعه.
          فإن اتَّسع لباحثٍ محسِنٍ زمانٌ تتبَّعَ ما لم يخرِّجاه من المتون اللاحقة بشرط الصَّحيح في سائر المجموعات والمنثورات، وميَّز ذلك إن وجده فيها، وكانت له مُنَّةٌ(6) في انتقاد ذلك منها.
          ونرجو أن يكون ما أتعبنا الخاطر فيه، وأنفقنا العمرَ عليه، وجمعنا أشتاته، وقرَّبنا متباعده من ذلك، أخصرَ في المطالعة، وأعجلَ للحفظ، وأسرعَ للتبليغ، وأمكنَ للفَهم والاستنباط، وأزيدَ في الاستبصار، وأنفعَ في العلم والعمل، وأدعى إلى دعوةٍ نستفيدُها من مستفيدٍ حصَل على غنيمةٍ قَصُرت عليه المسافةُ فيها، ولم يتعب في تحصيلها وتأتِّيها.
          وبالله تعالى نعتصم، وإياه نسأل نفْعَنا والانتفاعَ بنا، والزُّلفى لدَيه بكلِّ ما نتقرَّب به إليه، جعلَنا الله وإياكم من المعتصمين بكتابه وسُنَّة نبيِّه صلعم الدَّاعين إليهما، الموفَّقين لفهمهما واستعمالهما، ورزقَنا وإياكم الإخلاصَ واليقينَ، / وصلاحَ الدُّنيا والدين، والقَبولَ المُعْلي إلى عِلِّيين بمَنِّه. آمين.
          وغفر لنا وللأئمة السَّالفين، ولآبائنا أجمعين، ولجميع المسلمين.
          والحمد لله أوَّلاً وآخراً، وعَوداً وبَدءاً، حمداً يدوم ولا يَبيد، وصلَّى الله على نبيه المصطفى محمدٍ، وعلى آله المقتدين به وسلَّم تسليماً دائماً أبداً، يتكرَّر ويزيد، وحسبنا الله وحدَه ونِعمَ الوكيل.
          وهذا حينُ نبدأ فيما قصدنا له من الجمع بين الصَّحيحين على الترتيب المذكور، فأوَّل ذلك ما فيهما من (مسند أبي بكرٍ الصِّدِّيق) رضوان الله عليه (7). / ... / ... / .... /


[1] قال النووي: ضبطناه بكسر الخاء وفتحها والكسر أصح وأشهر.«شرح مسلم» 10/201.
[2] في هامش (ابن الصلاح): (المكثرون من الصحابة أولهم أبو هريرة وأنس وعائشة وعبد الله بن عمر وجابر وابن عباس وأبو سعيد الخدري، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص معدوداً في المكثرين لكنه توعرت الطرق إليه فصار من المقلين أو من...).
[3] في هامش (ابن الصلاح): (قال لنا الشيخ رضي اللهُ عنه: قد تعجبُ منه رحمه اللهُ فيما أخبر به من هذا الترتيب مع كونه ذكر في المقدمين جماعة من المقلين ليسوا من المقدمين كعبد الله بن يزيد الخطمي وسليمان بن صرد ومجاشع ومجالد ابني مسعود في أشباهٍ لهم وجعل في المقلين..جماعةً من المقدمين كبلال وسلمان الفارسي وغيرهما ولعله بدأ..فرجع عن هذا ونسي أن يغير في الخطبة والله أعلم).
[4] في (ش): (الكتابين)! ويحتمل النصب على الاختصاص.
[5] في (ش): (قيام الساعة)، وفي هامش (ابن الصلاح): (يوم القيامة)، وما أثبتناه من (ابن الصلاح) وهامش (ش).
[6] وهي بالضم: القوة والقدرة، انظر: «تاج العروس» مادة (م ن ن).
[7] في هامش (ش): (آخر الجزء الأول من الأصل بخط الحميدي).