الجمع بين الصحيحين للحميدي مع تعقبات الضياء المقدسي

حديث: إن ثلاثةً من بني إسرائيل أبرص وأقرع

          2306- الثَّامن والثَّلاثون بعد المئة: عن إسحاقَ بن عبد الله بن أبي طلحةَ عن عبد الرَّحمن ابن أبي عَمْرةَ: أنَّ أبا هريرةَ حدَّثه أنَّه سمِعَ النَّبيَّ صلعم يقول: «إنَّ ثلاثةً من بني إسرائيلَ أبرصَ وأقرعَ وأعمى، فأرادَ الله أن يبتليَهم، فبعث إليهم ملَكاً، فأتى الأبرصَ فقال: أيُّ شيءٍ أحبُّ إليك؟ قال: لونٌ حسنٌ وجلدٌ / حسن، ويَذهبُ عنِّي الَّذي قذِرَني النَّاسُ، قال: فمسحَه فذهبَ عنه قذَرُه، وأُعطيَ لوناً حسناً وجلداً حسناً، قال: فأيُّ المالِ أحبُّ إليك؟ قال: الإبلُ _أو قال: البقرُ، شَكَّ إسحاقُ، إلَّا أنَّ الأبرصَ أو الأقرعَ، قال أحدُهما: الإبلُ، وقال الآخر: البقرُ_ قال: فأُعطيَ ناقةً عُشَراءَ(1)، فقال: باركَ الله لك فيها.
          قال: فأتى الأقرعَ فقال: أيُّ شيءٍ أحبُّ إليك؟ قال: شعرٌ حسنٌ، ويَذهبُ عنِّي هذا الَّذي قد قذِرَني النَّاسُ، قال: فمسحَه فذهب عنه، قال: وأُعطيَ شعراً حسناً، قال: فأيُّ المال أحبُّ إليك؟ قال: البقرُ، قال: فأُعطيَ بقرةً حاملاً، فقال: بارك الله لك فيها.
          قال: فأتى الأعمى فقال: أيُّ شيءٍ أحبُّ إليك؟ قال: أنْ يردَّ الله إليَّ بصري فأُبصِرَ به النَّاسَ، قال: فمسحَه فردَّ الله إليه بصرَه، قال: فأيُّ المال أحبُّ إليك؟ قال: الغنمُ، فأُعطيَ شاةً والداً(2).
          فأنتجَ هذان(3)، وولَّدَ هذا(4)، فكان لهذا وادٍ من الإبل(5)، ولهذا وادٍ من / البقرِ، ولهذا وادٍ من الغنمِ، قال: ثمَّ إنَّه أتى الأبرصَ في صورتِه وهيئتِه، فقال: رجلٌ مسكينٌ قد انقطعتْ بيَ الحبالُ في سفري(6)، فلا بلاغَ ليَ(7) اليومَ إلَّا بالله ثمَّ بكَ، أسألُكَ بالَّذي أعطاكَ اللونَ الحسنَ والجلدَ الحسنَ والمالَ؛ بعيراً أَتبلَّغُ به في سفَري، فقال: الحقوقُ كثيرةٌ، فقال له: كأنِّي أعرفُك! ألم تكنْ أبرصَ يقذَرُك النَّاسُ فقيراً؛ فأعطاكَ الله، فقال: إنَّما ورثْتُ هذا المالَ كابراً عن كابرٍ(8) ! فقال: إنْ كنتَ كاذباً فصيَّرك الله إلى ما كنتَ.
          قال: وأتى الأقرعَ في صورتِه، فقال له مثلَ ما قال لهذا، ورَدَّ عليه مثلَ ما رَدَّ على هذا، فقال: إن كنتَ كاذباً فصيَّرك الله إلى ما كنتَ.
          قال: وأتى الأعمى في صورتِه وهيئتِه فقال: رجلٌ مسكينٌ(9) وابنُ / سبيل(10) انقطعتْ بيَ الحبالُ في سفري، فلا بلاغَ ليَ اليومَ إلَّا بالله ثمَّ بك، أسألك بالَّذي ردَّ عليك بصرَك شاةً أتبلَّغُ بها في سفري، فقال: قد كنتُ أعمى فردَّ الله إليَّ بصري، فخُذْ ما شئتَ ودَعْ ما شئتَ، فوالله لا أَجهدُك اليومَ بشيءٍ أخذتَه لله(11). فقال: أمسِكْ مالكَ، فإنَّما ابتُليتم، فقد رُضيَ عنك وسُخطَ على صاحبَيك». [خ¦3464]


[1] العِشار من النوق: الحواملُ التي في بطونها أولادها، الواحدة عشراء، وإذا وضعت لتمام سنة من يوم حملت فهي عُشراء، وهي أحسن ما تكون ولا يعطلها أهلها إلا في شدة القيامة، وقيل العشراء: التي أتى لحملها تمام عشرة أشهر، يقال: قد عشَرت تعشر، وقيل: العشار التي أتى على نتاجها عشرة أشهر من يوم أرسل فيها الفحل وزال عنها اسم المخاض.
[2] شاةٌ والد: أي؛ قد عهد منها كثرة الولد.
[3] أنتجَ هذان: أي؛ قبل كل واحد منهما نتاج ما عنده وافتقدها عند الولادة، يقال: نتجت الناقة أنتجها، والناتج للنوق كالقابلة للنساء.
[4] وولَّد هذا: أي؛ فعل هذا في الشاء كفعل الآخرين في البقر والإبل من التربية والرفق بالنتاج عند الولادة، والمُولِّدة: القابلةُ، وقالت امرأةٌ من العرب: أنا ولَّدت عامّة أهل ديارنا وربيتهم، ويقال: إنَّ في الإنجيل أنا ولدتُك؛ أي: ربيتك.
[5] حتى كان لهذا وادٍ من الإبل ولهذا وادٍ: أي؛ ما يملأ وادياً أو يغمر وادياً، إشارة إلى الكثرة والنماء.
[6] انقطعتْ بيَ الحبالُ في سفري: الحبْل: العهدُ والزمام والأمان والوسيلة، وكل ما نرجو منه فرجاً أو نستدفع به ضرراً فهو حبل، وقد يُسمى الحبل سبباً والسبب حبلاً، قال تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف:85] أي: علماً يتوصل به إلى حيث يريد، ويقال: للطريق سبب، وللحبل الذي يتوصل به إلى الماء سبب، وللباب سبب، ولكل ما توصل به إلى ما يبعد عنك سبب، فكأنه قال: انقطعتْ بيَ الأسبابُ التي كنت أرجو بها الوصول في سفري.
[7] فلا بلاغَ لي: أي؛ لا وصولَ، والبلاغُ والبلوغ: الوصول إلى الغرض المقصود من دِين أو دنيا، وقد يكون الإشراف على الوصول في قوله {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة:234] أي: شارَفْن ذلك وقربن منه، أتبلغ به في سفري؛ أي: أَتوصلُ وأكتفي به، والبُلْغة الكفايةُ ومقدارُ الحاجة.
[8] يقال: ورثَ القوم مَخَدَعهم كابراً عن كابر: أي؛ كبيراً عن كبير في الشرف والعز والجلالة.
[9] رجلٌ مسكينٌ: قيل المسكينُ الذي أسكنه الفقرُ؛ أي: قلَّل حركتَه، مِفْعيل من السكون، وقال ابنُ عرفةَ في قوله {فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] إنَّما سماهم مساكينَ؛ لذُّلهم وقدرةِ الملك عليهم، وضعفهم عن الانتصار منه والامتناع عنه، ومنه في حديث قَيْلَة: «صدقت المسكينة» أراد معنى الضِّعف و لم يرد الفقر، وقولُه «اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين» أي: متواضعاً مخبتاً غيرَ جبارٍ ولا مستكبر وقوله لقَيْلَة: «يا مِسكينةُ عليك السكينةُ» أي: عليك الوقارُ والهدوء، وفي صفة المصلي تبأَسُ وتَمسْكَنُ؛ أي: تذَلَّل وتَخضَّع لله ╡.
[10] السَّبيلُ: الطريق، وابنُ السبيلِ: الضيف المنقطع به الذي هو على طريقه في سفره وقصده.
[11] لا أجهدُك بشيء أخذتَه لله: أي؛ لا أشق عليك بالرد والامتنان.