الجمع بين الصحيحين للحميدي مع تعقبات الضياء المقدسي

حديث: ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبون

          1915- الثَّامن والسِّتُّون: عن أبي قِلابَةَ أنَّ عمرَ بنَ عبد العزيز أبرَز سريرَه يوماً للنَّاس، ثمَّ أذِن لهم فدخلوا، فقال لهم: ما تقولون في القَسَامة؟ قالوا: نقول في القَسَامة: القَوَد بها حقٌّ، وقد أقادَت بها الخلفاءُ، فقال لي: ما تقول يا أبا قِلابَةَ؟ ونَصَبَني للنَّاس، فقلت: يا أمير المؤمنين، عندك رؤوسُ الأجناد وأشرافُ العرب أرأيت لو أنَّ خمسين منهم شَهدوا على رجلٍ مُحصَنٍ بدمشقَ أنَّه قد زَنا ولم يَرَوه، أكنت ترجُمه؟ قال: لا، قلت: أرأيت لو أنَّ خمسين منهم شهدوا على رجلٍ بحمص أنَّه قد سرَق، أكنت تقطعُه ولم يرَوه؟ قال: لا.
          قلت: «فوالله ما قتل رسول الله صلعم أحداً قطُّ إلَّا في إحدى ثلاث خصالٍ: رجلٌ قَتَلَ بجَريرة نفسه فقُتِلَ، أو رجلٌ زنا بعد إحصانٍ، أو رجلٌ حاربَ الله ورسولَه وارتدَّ عن الإسلام». /
          فقال القوم: أوَليس قد حدَّث أنس بن مالك: «أنَّ رسول الله صلعم قطع في السَّرِقة وسَمَرَ الأعين(1) ونبذَهم(2) في الشَّمس؟».
          فقلت: أنا أحدِّثكم حديث أنس، حدَّثني أنس: «أنَّ نفراً من عُكْل ثمانيةً(3) قدِموا على رسول الله صلعم، فبايَعوه على الإسلام، فاستوخَموا(4) المدينة فسقِمت أجسامُهم، فشكَوا ذلك إلى رسول الله صلعم، فقال: ألَا تخرُجون مع راعينا في إبله فتُصيبون من أبوَالِها و ألبَانِها؟ قالوا: بلى، فخرَجوا فشرِبوا من ألبانها وأبوالها فصَحُّوا، فقتَلوا راعي رسول الله صلعم، وأَطرَدوا(5) النَّعَمَ، فبلَغ ذلك رسول الله صلعم، فأرسَل في آثارهم فأُدرِكوا، فجيء بهم، فأمرَ بهم فقُطِعَت أيديهم وسَمَرَ أعينَهم، ثمَّ نبذَهم في الشَّمس حتَّى ماتوا».
          قلت: وأيُّ شيءٍ أشدُّ ممَّا صنَع هؤلاء؟ ارتدّوا عن الإسلام، وقَتلوا، وسرَقوا.
          فقال عَنْبَسَة بنُ سعيد: والله إنْ سمعتُ كاليومِ قطُّ! قلت: أَتَرُدُّ عليَّ حديثي يا عَنَبْسةُ؟ فقال: لا، ولكن جئتَ بالحديث على وجهه، والله لا يزالُ هذا الخبرُ بخيرٍ ما عاشَ هذا الشَّيخُ بين أظهُرِهم(6). /
          قلت: وقد كان في هذا سُنَّةٌ من رسول الله صلعم: «دخَل عليه نفرٌ من الأنصار، فتحدَّثوا عنده، فخرَج رجلٌ منهم بين أيديهم فقُتِلَ، فخرَجوا بعده، فإذا هم بصاحبهم يتشحَّط(7) في الدَّم، فرجعوا إلى رسول الله صلعم فقالوا: يا رسول الله صاحبُنا كان تحدَّث معنا، فخرَج بين أيدينا، فإذا نحن به يتشحَّط في الدَّم، فخرج رسول الله صلعم فقال: مَن تظنُّون، أو مَن تَرَونَ قَتَلَهُ؟ قالوا: نرى أنَّ اليهودَ قتلَته، فأرسَل إلى اليهود فدعاهم، فقال: آنتُم قتلتُم هذا؟ قالوا: لا، قال: أترضَون نَفَلَ خمسين من اليهود ما قتلوه؟ قالوا: ما يبالون أن يقتُلونا أجمعين ثمَّ ينتفِلون(8)، قال: أفتستحقُّون الدِّية بأيمانِ خمسين منكم؟ قالوا: ما كنَّا لنحلِفَ، فوداه من عنده».
          قلت: وقد كانت هذيلٌ خلَعوا خليعاً(9) لهم في الجاهليَّة، فطرَق أهلَ بيتٍ بالبطحاء، فانتبه له رجُلٌ منهم، فحذَفه بالسَّيف(10) فقتَلَه، فجاءت هذيلٌ وأخذوا اليماني، فرفَعوه إلى عمرَ بالموسِم وقالوا: قَتَل صاحبَنا، فقال: إنَّهم قد خلَعوه، فقال: يقسِمُ خمسون من هذيلٍ ما خلَعوه، قال: فأقسَم منهم تسعةٌ وأربعون رجلاً، وقدِم رجلٌ منهم من الشَّام، فسألوه أن يُقسم فافتَدى يمينَه منهم بألفِ درهَمٍ، فأدخَلوا مكانَه رجلاً آخر، فدفَعه إلى أخي المقتول، فقُرِنَت يدُه بيدِه، قال: فانطَلقا والخمسون الَّذين أقسموا، حتَّى إذا كانوا بنخلةَ أخذتهم السَّماء، فدخلوا / في غارٍ في الجبل، فانهَجَم الغارُ(11) على الخمسين الَّذين أقسموا فماتوا جميعاً، وأفلَتَ القَرينان، واتَّبَعَهما حجرٌ، فكسر رِجلَ أخي المقتول، فعاش حولاً ثمَّ مات!
          قلت: وقد كان عبدُ الملك بنُ مَروان أقاد رجلاً بالقَسامة، ثمَّ ندِم بعدُ ما صنَع(12)، فأمَر بالخمسين الَّذين أقسَموا، فمُحوا من الدِّيوان وسيَّرهم إلى الشَّام.
          هكذا في رواية البخاريِّ من حديث أبي بشر _إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ الأسديِّ، وهو ابن عُليَّة_ عن حجَّاج الصَّوَّاف بطوله. [خ¦6899]
          وفي روايته عن سلَيمانَ بنِ حَربٍ من حديث أيّوب عن أبي قِلابَةَ، عن أنس المسندُ منه قصَّة العُرنيين فقط. [خ¦233]
          وكذا في روايته عن عليِّ بنِ عبد الله المدينيِّ عن الوليد بنِ مسلم. [خ¦6802]
          وفي بعض الرِّوايات: «ولم يَحْسِمهم». [خ¦6803]
          وكذا في روايَته عن محمَّد بنِ عبد الرَّحيم، وفيه طرفٌ من كلام أبي قِلابَةَ عند عمر بن عبد العزيز. [خ¦4193]
          وفي حديثه عن عليِّ بن عبد الله عن الأنصاريِّ نحوه مختصرٌ، وفيه: (فقال / عنبسةُ: حدَّثنا أنس بكذا. فقال: إيَّاي حدَّث أنسٌ...)، وذكر حديث العُرنيين. [خ¦4610]
          وكذا عند مسلمٍ منه المسنَد في حديث العُرنيِّين فقط، واختَصَر ما عدا ذلك فلم يذكُره.
          وأخرجا هذا الطَّرف منه من حديث سعيدٍ عن قتادَةَ عن أنس: «أنَّ ناساً من عُكل وعُرينَة قدموا على النَّبيِّ صلعم وتكلَّموا بالإسلام، فقالوا: يا نبيَّ الله، إنَّا كنَّا أهل ضَرْعٍ، ولم نكن أهل ريفٍ(13).
          واستوخَموا المدينةَ، فأمرَ لهم النَّبيُّ صلعم بذَودٍ(14) وراعٍ، وأمرَهم أن يخرُجوا فيه فيشَربوا من ألبانها وأبوالها، فانطَلَقوا، حتَّى إذا كانوا ناحية الحرَّة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النَّبيِّ صلعم، واستاقوا الذَّود، فبلَغ ذلك النَّبيَّ صلعم، فبعَث الطَّلب في آثارهم، فأمَرَ بهم فسَمَروا أعيُنَهم، وقطعوا أيديهم، وتُركوا في ناحية الحرَّة حتَّى ماتوا على حالهم».
          قال قتادة: بلغنا «أنَّ النَّبيَّ صلعم بعد ذلك كان يَحُثُّ على الصَّدقة، وينهى عن المُثلَة»(15).
          وأخرجاه من حديث همَّام بنِ يحيَى بنَحوِه، وزاد موسى عن همَّام قال / قتادة: فحدَّثني ابن سيرين أنَّ ذلك قبل أن تَنزِلَ الحُدودُ. [خ¦5686]
          وأخرجه البخاريُّ من حديث شعبَةَ عن قتادَةَ عن أنس: «أنَّ ناساً من عُرينَةَ اجتَووا المدينةَ، فرخَّص لهم رسول الله صلعم أن يأتوا إبل الصَّدقة فيشرَبوا من ألبانها وأبوالها، فقتلوا الرَّاعي واستاقوا الذَّود، فأرسَل رسول الله صلعم فأُتي بهم، فقطَع أيديَهم وأرجلَهم، وسَمَرَ أعينَهم، وترَكَهم بالحرَّة يعَضُّون الحجارة»، لم يزد. [خ¦1501]
          وقد جمَع أبو مَسعودٍ في ترجمةِ شعبَةَ عن قتادَةَ عن أنس بين هذا الحديث الَّذي للبخاريِّ وبين حديث أبي الحسين مسلم بن الحجَّاج في الدُّعاء على رِعل وذكوانَ وعصيَّة، فجعَل الفَصلين بظاهر كلامه متَّفقاً عليهما من هذه التَّرجمة، وليس في حديث مسلمٍ هذا ذكرٌ لأمرِ العُرنيِّين والحكمِ فيهم أصلاً، ولا في حديث البخاريِّ المذكورِ ذكرُ الدُّعاء على رِعلٍ وذكوانَ وعصيَّة.
          وأضاف أيضاً أبو مسعودٍ إلى هذه التَّرجمة حديث شعبَةَ عن موسى بنِ أنس، وإنَّما هو في الدُّعاء على رِعلٍ وذكوان، وليس فيه: «أنَّ ناساً من عرينة اجتوَوا المدينة...»، وقد قال في ترجمة موسى بنِ أنس عن أنس: إنَّه من أفراد مسلم.
          وحديث البخاريِّ بما قلنا في آخر كتاب الزَّكاة، وحديث مسلم بما ذكرنا في الصَّلاة في أحاديث القنوت، فليتأمَّل ذلك من أراد تحقيق النَّظر فيه.
          وقد أورَد ذلك خلَفٌ الواسطيٌّ في كتابه على الصَّواب، فجعَل ذكر الَّذين اجتوَوا المدينة من أفراد البخاريِّ، وجعَل ذكر الدُّعاء على رعلٍ وذكوانَ من أفرادِ / مسلمٍ، وحديثَ موسى بنِ أنس من أفرادِ مسلمٍ أيضاً كما ذكرَه أبو مسعودٍ في ترجمة موسى.
          وللبخاريِّ وحدَه من حديث سلَّام بن مسكين عن ثابتٍ عن أنس: «أنَّ ناساً كان بهم سَقَمٌ، فقالوا: يا رسول الله، آوِنا وأطعِمنا، فلمَّا صَحّوا قالوا: إنَّ المدينة وَخِمة، فأنزَلهم الحرَّة في ذَودٍ له، فقال: اشرَبوا من ألبانها. فلمَّا صَحّوا قتَلوا راعي رسول الله صلعم، واستاقوا ذَوده، فبعَث في آثارهم وقطَع أيدِيَهم وأرجلَهم، وسَمَرَ أعينَهم، فرأيتُ الرَّجلَ منهم يَكدِمُ(16) الأرض بلسانه(17) حتَّى يموت».
          قال سلَّام: فبلَغَني أنَّ الحجَّاج قال لأنس: حدِّثني بأشدِّ عقوبةٍ عاقبَ بها النَّبيُّ صلعم، فحدَّثه بهذا. فبلغ الحسنَ فقال: ودِدت أنَّه لم يحدِّثه. [خ¦5685]
          وأخرجه مسلم من حَديث هُشيم عن عبدِ العزيز بنِ صُهيب وحمَيد بنِ تيرويه الطّويل عن أنس، وفيه: «ثمَّ مالوا على الرِّعاء فقتَلُوهُم...»، وذكر نحو حديث العُرنيِّين فقط، ومن حديث معاويةَ بنِ قُرَّة عن أنس بنَحوِه، وفيه: «وكان قد وقَع بالمدينة المُومُ وهو البِرْسام(18)...»، وذكَرَه، وزاد: «وكان عندَه شبابٌ من الأنصار قريبٌ من عشرين، فأرسَلَهم إليهم، وبعَث قائفاً يقتصُّ آثارَهم(19)».
          ومن حديث سُليمان بنِ طَرخان التَّيميِّ عن أنس قال: «إنَّما سَمَلَ النَّبيُّ صلعم أعيُن أولئك لأنَّهم سَمَلوا أعيُنَ الرِّعاء». /


[1] سَمَل أعينهم وسَمَر: فمن رواه بالراء فمعناه: أحمى مسامير الحديد وكحَّلهم به، ومن رواه سَمَلَ فمعناه: فقأها بشوك أو غيره، كذا قال الهروي وفي «المجمل»: سُمِلت عينُه تسمَل إذا فقئت بحديدةٍ محمَّاة.
[2] النبذ: الطرد والإلقاء، ومنه النبيذ والمنبوذ.
[3] تحرف في (الحموي) إلى (يمانية).
[4] الوخم: الوَبيء، استوخمت البلد، وبلَد وخِم ووخِيم إذا لم توافق ساكنه، ورجُل وخِم أي ثقيل، واشتقاق التُّخمَة منه.
[5] الطرد: الإخراج والإزعاج، وأطرده السلطان وطرَدَه إذا أخرجه عن مستقره.
[6] في (الحموي): (أظهركم)، وما أثبتناه موافق لما في «البخاري».
[7] الشحط: الاضطراب في الدم، والولد يتشحط في السلا أي يضطرب، والسّلا الوعاء الذي يكون فيه الولد في البطن، وجمعه أسلاء.
[8] انتفَل من الأمر انتفالاً: أي انتفى منه وتبرأ، وانتفل من ولده إذا تبرأ منه، والنفل: القَسامة والأيمان على البراءة من الدم المدعى، وسميت الأيمان نفلاً؛ لأن القصاص يُنفى بها.
[9] خلعوا خليعاً لهم: أي انتفوا منه وتبرؤوا من أفعاله.
[10] حذفه بالسيف: إذا ضربه به فقطع منه.
[11] فانهجم الغار: أي انهدم، ويقال: هجمتُ الدار هدمتُها.
[12] في (ق): (بعد على ما صنع)، وما أثبتناه موافق لما في «البخاري».
[13] الرِّيف: أصله الخصب، يقال: رافت الأرض، وصرنا في الريف، وأرض رَيِّفة، من الريف، وسمي الريف ريفاً؛ لما فيه من الخصب.
[14] الذَّود من الإبل: من الثلاثة إلى العشرة.
[15] المثُلات: العُقوبات، واحدتها مُثْلة، و يقال في الجمع: مُثُلات ومُثَلات ومُثْلات، ومثَّل بالقتيل إذا جدعه.
[16] الكَدْم: العض بأدنى الفم كما يكدم الحمار.
[17] في (الحموي): (بأسنانه)، وما أثبتناه موافق لما في «البخاري».
[18] المُومُ والبِرسام: مرض يغير العقل.
[19] القائف: المتتبع للآثار العارف بمواقعها.اقتص آثارهم: اتبعها.