الجمع بين الصحيحين للحميدي مع تعقبات الضياء المقدسي

حديث: إن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح

          1757- الرَّابع والعشرون: عن عطاء بن يسارٍ عن أبي سعيدٍ قال: «جلسَ رسولُ الله صلعم على المنْبرِ وجلسنا حولَه، فقال: إنَّ ممَّا أخافُ عليكُم بعدي ما يُفْتَح عليكم من زهرةِ الدُّنيا وزِينتِها(1)، فقال رجلٌ: أوَ يأتي الخيرُ بالشَّرِّ يا رسول الله؟ قال: فسكَتَ عنه رسول الله صلعم، فقيل: ما شأنُك تُكَلِّمُ رسولَ الله صلعم ولا يُكَلِّمُكَ؟! قال: ورأَينا أنَّه يُنزَلُ عليه، فأفاق يمسحُ عنه الرُّحَضاءَ(2) وقال: أينَ هذا السَّائلُ؟ وكأنَّه حَمِده، فقال: إنَّه لا يأتي الخيرُ بالشَّرِّ.
          وفي / رواية: فقال: أين السَّائلُ آنفاً؟ أَوَخَيرٌ هو _ثلاثاً_ إنَّ الخيرَ لا يأتي إلَّا بالخيرِ وإنَّ ممَّا يُنبِتُ الرَّبيعُ يَقتُلُ حَبَطاً(3) أو يُلِمُّ(4) إلَّا آكلةَ الخَضِرِ(5)، فإنَّها أكلت حتَّى إذا امتدَّت خاصرتاها استقْبَلت عينَ الشَّمسِ، فثَلَطَت(6) وبالَت، ثمَّ رتَعَت، وإنَّ هذا المالَ خَضِرٌ حلوٌ، ونِعْمَ صاحبُ المسلمِ هو لِمَن أعطى منه المسكينَ واليتيمَ / وابنَ السَّبيل، أو كما قال رسول الله صلعم، وإنَّه مَن يأخذُه بغير حقِّه كالَّذي يأكلُ ولا يشبَع، ويكون عليه شهيداً يومَ القيامةِ». [خ¦1465]
          وأوَّلُه عند ابنِ وَهْبٍ عن مالكٍ: «أَخْوَفُ ما أخافُ عليكم ما يُخرِجُ الله لكم من زهرةِ الدُّنيا، قالوا: وما زهرةُ الدُّنيا يا رسول الله؟ قال: بركاتُ الأرض... وذكرَه.
          وفي آخره: فمن أخذهُ بحقِّه ووضعَه في حقِّه، فنِعْمَ المَعونةُ هو، ومَن أخذَهُ بغير حقِّه كان كالَّذي يأكلُ ولا يشبَعُ». [خ¦2842]
          وأخرجه مسلمٌ من حديث عياضِ بن عبد الله بن سعدِ بن أبي سَرْحٍ عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ بنحوِه.


[1] زَهرة الدنيا: حسنُها ونعيمها.
[2] الرُّحَضاء: العَرَق الكثير، ومنه رَحَضتُ الثوبَ غسلتُه بالماء.
[3] الحَبَط: أن تُكثر الدَّابّةُ من أكل المرعى حتى ينتفخَ لذلك بطنها، فلا تَثْلِط ولا تبول، واحتباسُ ذلك ربما قتلها.
[4] أوْ ألَمَّ بذلك: أي قارب ذلك.
[5] الخَضِر: ليست من أحرار البقول ولا جيدها، ولكنها من الجَنْبَة، وهي نوعٌ أدنى من ذلك، يبقى بعد يَبَس المرعى، فترعاه المواشي ضرورةً لقلة وجود غيره.فأما قوله: «مما يُنبِت الربيعُ ما يقتل حَبَطاً أو يُلِم»: فهو مثَلُ المفرط الذي يأخذها بغير حقها، وذلك أن الربيع يُنبِت أحرار النبْت، فتستكثر الماشية منه لاستطابتها إياه، حتى تنتفخ بطونها عند مجاوزتها حد الاحتمال، فتُشَق أمعاؤها من ذلك فتهلِك، كذلك الذي يجمع الدنيا من غير حقها، ويمنعها من حقها، قد تعرض للهلاك في الآخرة.
[6] ثَلَط البعيرُ: إذا ألقى ما يَخرج من رجيعه سهلاً رقيقاً.قيل: وفي الخبر مَثَلان: ضُرب أحدهما للمفرِطين في جمع الدنيا ومنعِها من حقها، وضُرب الآخَر للمُقتصِد في أخذها والانتفاع بها.فأما مثَل المقتصد فقوله عليه السلام: «إلا آكِلَةَ الخَضِر»: وذلك أن الخضر ليس من أحرار البقول التي ينبتها الربيع بتوالي أمطاره فتحسُن وتَنعَم، ولكنه من التي ترعاها المواشي بعد هَيْج البقول ويبسها؛ إذ لا تجد غيرها، وتسميها العرب الجَنْبَة، فضرب النبي صلعم آكلةَ الخضر من المواشي مثلاً لمن يقتصر في أخذ الدنيا وجمعها، ولا يحمله الحرص على أخذها بغير حقها، فهو ينجو من وبالها، كما نجت آكلة الخضر، ألا تراه قال: «أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عينَ الشمس فثَلَطَت وبالت»: أراد أنها إذا شبِعت منها برَكت مستقبلةً عينَ الشمس تستَمرىءُ بذلك ما أكلت، وتجتر وتثلِط، فإذا ثَلَطت وبالت فقد زال عنها الحَبَط، وإنما تحبَط الماشية لأنها لا تَثلِط ولا تبول.