الجمع بين الصحيحين للحميدي مع تعقبات الضياء المقدسي

حديث: من كان اعتكف فليرجع إلى معتكفه

          1740- السَّابع: عن أبي سلمةَ بنِ عبد الرَّحمنِ عن أبي سعيدٍ قال: «اعْتكَفْنا مع رسول الله صلعم العشرَ الأوْسطَ، فلمَّا كان صَبِيحةَ عِشرينَ نقَلْنا متاعَنا، فأتانا النبي صلعم فقال: مَن كان اعتكف فلْيرجِعْ إلى مُعْتكَفِه؛ فإنِّي رأَيتُ هذه اللَّيلةَ، ورأيتُنِي أسْجُد في ماءٍ وطينٍ. فلمَّا رجع إلى مُعْتكفِه هاجَتِ السَّماءُ(1) فمُطِرنَا فَوَالَّذِي بعَثهُ بالحقِّ؛ لقَد هاجَتِ السَّماءُ مِن آخرِ ذلكَ اليومِ، / وكانَ المسجدُ على عرِيشٍ، فلقد رأيتُ على أنفِه وأرنبتِه(2) أثرَ الماء والطِّين». [خ¦2040]
          وفي روايةِ محمَّدِ بن إبراهيمَ التَّيميِّ عن أبي سلمةَ، من روايةِ مالكٍ عن يزيدَ بنِ عبدِ الله بنِ الهاد عن محمَّد بن إبراهيمَ نحوُه، إلَّا أنَّه قال: «حتَّى إذا كان ليلةُ إحدى وعشرينَ _وهي اللَّيلةُ الَّتي يخرجُ من صبيحتِها منِ اعتِكافه_ قال: مَن كانَ اعتكفَ معِي فلْيعتكِفِ العشْرَ الأواخِرَ». [خ¦2027]
          وفي حديث الدَّرَاوَرْديِّ وابنِ أبي حازمٍ عن يزيدَ عن محمَّدٍ نحوُه أيضاً، إلَّا أنَّه قال: «كان النبي صلعم يجاورُ في رمضانَ العشرَ الَّتي في وسَط الشَّهرِ، فإذا كانَ حينَ يُمسِي من عشرين ليلةٍ تمضِي ويستقبلُ إحدى وعشرينَ؛ رجعَ إلى مَسكنِه، ورجَعَ مَن كان يجاورُ معه، وأنَّه أقامَ في شهرٍ جاورَ فيه اللَّيلةَ الَّتي كان يرجِع فيها، فخطَب النَّاسَ وأمرَهم بما شَاء الله، ثمَّ قال: كنتُ أجاورُ هذه العشرَ، ثمَّ قد بدا لي أن أجاورَ هذه العشرَ الأواخرَ، فَمَن كان اعتَكفَ معي فلْيثبُت في مُعْتكَفِه» ثمَّ ذَكرَه، وفيه: «فَوَكَفَ(3) المسجدُ في مصلَّى النبي صلعم ليلةَ إحدى وعشرين...» الحديثَ. [خ¦2018]
          وفي روايةِ يحيى بنِ أبي كثِيرٍ عن أبي سلمةَ قال: انطلقتُ إلى أبي سعيدٍ فقلت: ألاَ تخْرجُ بنا إلى النَّخْل فنَتحدَّثَ، فخَرج، فقُلت: حدِّثْني ما سمِعتَ مِن / رسولِ الله صلعم في ليلةِ القدْرِ قال: «اعْتكَف رسولُ الله صلعم عشرَ الأُوَلِ من رمضانَ واعْتكَفنا معه، فأتاه جبريلُ ◙ فقال: إنَّ الَّذي تَطْلُبُ أمامَك، فاعتكَف العشْرَ الأَوْسَط واعتكَفنا معه، فأتاه جبريلُ ◙ فقال: إنَّ الَّذي تطْلُب أمامَك، ثمَّ قام النَّبيُّ خطيباً صبيحةَ عشرينَ من رمضانَ فقال: مَن كان اعتكَف مع النبي صلعم فلْيَرْجِعْ؛ فإنِّي رأيتُ ليلةَ القَدْر، وإنِّي أُنْسيتُها، وإنَّها في العشرِ الأواخرِ في وِتْرٍ، وإنِّي رأيتُ كأنِّي أسجُد في طِينٍ وماءٍ.
          وكان سقْفُ المسجِد جريدَ النَّخْل(4)، وما نرى في السَّماء شيئاً، فجاءت قَزَعَةٌ(5) فمُطِرنَا، فصلَّى بنا النبي صلعم حتَّى رأيت أثر الطِّين والماء على جبهة رسول الله صلعم وأرْنَبَتِه تَصدِيقَ رُؤْياهُ». [خ¦813]
          قال البُخاريُّ: كان الحُميديُّ يحتجُّ بهذا الحديث يقولُ: لا تُمسَحُ الجبهةُ في الصَّلاةِ، بلْ تُمسَحُ بعد الصَّلاة؛ لأنَّ النبي صلعم رُئِيَ الماءُ والطِّينُ في أرْنَبَته وجَبْهته بعدمَا صلَّى.
          أعادَ البُخاريُّ منه طرَفاً في الصَّلاةِ مِن روايةِ يحيى عن أبي سلمةَ عن أبي سعيدٍ قال: «رأيتُ النبي صلعم يسجُد في الماءِ والطِّينِ، حتَّى رأيتُ أثرَ الطِّينِ في جبهتِه». لم يزد. [خ¦669]
          وهذا عند مسلمٍ بألفاظٍ فيها زيادةُ بيانٍ من حديثِ عُمارةَ بنِ غَزِيَّة عن محمَّد بن إبراهيمَ عن أبي سلمةَ عنه: «أنَّ رسولَ الله صلعم اعْتكَف العشرَ الأوَّلَ من / رمضانَ، ثمَّ اعْتكَف العشرَ الأوْسَطَ في قُبَّةٍ تُركيَّةٍ على سُدَّتها(6) حَصيرٌ، فأخَذ الحَصيرَ بيدِه، فنحَّاها في ناحيةِ القُبَّة، ثمَّ أَطْلع رأسَه فكلَّمَ النَّاس، فدنَوْا منه، فقال: إنِّي اعتكفْتُ العشرَ الأوَّلَ ألْتَمِسُ هذه اللَّيلةَ، ثمَّ إنِّي اعتكَفْتُ العشرَ الأوْسَط، ثمَّ أُتِيتُ، فقيل لي: إنَّها في العشرِ الأواخرِ، فمن أحبَّ منكُم أنْ يعتكِفَ فلْيعتكِفْ. فاعتكَف النَّاسُ معه.
          قال: وإنِّي أُريتُهَا ليلةَ وِترٍ، وإنِّي أسجُد في صبِيحتِها في طينٍ وماءٍ، فأصبحَ من ليلةِ إحدى وعشرينَ وقد قام إلى الصُّبح، فمَطَرتِ السَّماءُ، فوَكَفَ المسجدُ، فأبْصَرت الطِّينَ والماءَ، فخرج حينَ فرغَ من صلاةِ الصُّبحِ وجبينُه ورَوْثةُ أنفِه فيها الطِّينُ والماءُ، وإذا هي ليلةُ إحدى وعشرينَ من العشرِ الأواخرِ».
          وأخرجه مسلمٌ أيضاً من حديثِ أبي نضْرةَ عن أبي سعيدٍ قال: اعتكَف رسولُ الله صلعم العشرَ الأوْسطَ من رمضانَ يَلْتمِس ليلةَ القَدْر قبلَ أن تُبانَ له، قال: فلمَّا انْقضَيْن أمَرَ بالبناءِ فقُوِّض(7)، ثمَّ أُثْبِتَت له أنَّها في العشرِ الأواخرِ، فأمَرَ بالبناءِ فأُعِيدَ، ثمَّ خرجَ على النَّاس فقال: «يا أيُّها النَّاسُ؛ إنَّها كانتْ أُبِينَت لي ليلةُ القدْرِ، وإنِّي خَرجْت لأُخبِركم بها، فجاء رجلانِ يَحتَقَّان(8) معهما الشَّيطانُ فنُسِّيتُهَا، فالْتمِسوها في العشْرِ الأواخرِ من رمضانَ، الْتمِسوها في التَّاسعةِ والسَّابعةِ والخامسةِ».
          قال: قلت: يا أبا سعيدٍ؛ إنَّكم بالعدد أعلمُ مِنَّا، قال: أجلْ؛ نحنُ أحقُّ بذاك / منكُم، قال: قلت: ما التَّاسعةُ والسَّابعةُ والخامسةُ؟ قال: إذا مَضَتْ واحدةٌ وعشرونَ فالَّتي تليها ثِنْتان وعشرونَ، فهي التَّاسعةُ، وإذا مضَى ثلاثٌ وعشرونَ فالَّتي تلِيها السَّابعةُ، فإذا مضى خمسٌ وعشرونَ فالَّتي تلِيها الخامسةُ.
          وقال ابنُ خَلاَّدٍ مَكان (يحتقَّان): يخْتَصِمان.


[1] هاجت السماء: ثارت بالغَيم وعلامات المطر.
[2] الأرْنَبة: مقدَّم الأنف، و روثة الأنف طرف الأرنبة.
[3] وكَف البيتُ يكِف وكْفاً: إذا نفذ الماء من ظاهر سقفه إلى ما تحته من باطن السقف وأرض البيت.
[4] الجريدُ: سعَف النخل، الواحدة سعَفَة، وهي أغصان النخل إذا يبِست، فأمَّا الرَّطْب من سَعَف النخل الأخضر فيقال لواحدها: شَطْبَة، وجمعها شُطَب، وقد يُستعمل ذلك فيها على المال.
[5] القزَع: قِطع السحاب، الواحدة قزَعة.
[6] السُّدَّة: الباب، ومنه قوله: «لا تُفتح لهم السُّدد» يعني: الأبواب، وسُدَّة المسجد: ظلاله التي حوله وفِناؤه.والسُّدَّة أيضا كالسرير، تُعمل من سَعَفٍ أو غيره.
[7] قوَّضتُ البناء: نقَضْتُه من غير هدم، وتقوضَت الصفوف: انتقضت.
[8] حاقَّ فلانٌ فلاناً: إذا خاصمه ونازعه وادعى كلُّ واحد منهما الحقَّ، وكذلك احتَقَّ الرجلان، فإذا غلب أحدهما قيل: حقَّه وأحقَّه.