الجمع بين الصحيحين للحميدي مع تعقبات الضياء المقدسي

حديث: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي

          1612- الخامس: عن جعفرِ بنِ محمَّدِ بن عليِّ عن أبيه قال: دخلنا على جابر بنِ عبد الله فسأل عن القوم حتَّى انتهى إليَّ، فقلت: أنا محمَّد بن عليِّ بنِ حسينٍ، فأهوى بيده إلى رأسي، فنزع زِرِّي الأعلى، ثمَّ نزع زِرِّيَ الأسفلَ، ثمَّ وضع يده بين ثَدْيَيَّ وأنا يومئذٍ غلامٌ شابٌّ، فقال: مرحباً بك يا ابن أخي، سَل عمَّا شئتَ، فسألتُه _وهو أعمى_ وحضر وقت الصَّلاة، فقام في نِسَاجةٍ(1) مُلتحِفاً بها، كلَّما وضعها على مَنكِبه رجع طَرَفاها إليه من صِغَرِها، ورداؤه إلى جنبه على المِشْجَب(2)، فصلَّى بنا.
          فقلت: أخبرني عن حَجَّة رسول الله صلعم، فعقَد بيده تسعاً فقال: «إنَّ رسول الله صلعم مكث تسعَ سنينَ لم يحُجَّ، ثمَّ أذَّن في النَّاس في العاشرة: أنَّ رسول الله صلعم حاجٌّ، فقدم المدينةَ بَشَرٌ كثيرٌ، وكلُّهم يلتمس أن يأتَمَّ برسول الله صلعم ويعمل مثلَ عمله فخرجنا معه حتَّى أتينا ذا الحُليفة، فولَدَت أسماءُ بنت عُمَيسٍ محمَّدَ بن أبي بكرٍ، فأرسلَتْ إلى رسول الله صلعم: كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثْفري بثوبٍ وأَحرِمِي. فصلَّى رسول الله صلعم في / المسجد، ثمَّ ركب القَصواءَ، حتَّى إذا استوت به ناقتُه على البيداءِ نظرتُ إلى مَدِّ بصري بين يديه من راكبٍ وماشٍ، وعن يمينه مثلُ ذلك وعن يساره مثلُ ذلك، ومِن خلفه مثلُ ذلك، ورسولُ الله صلعم بين أظهُرنا، وعليه يَنزِل القرآن، وهو يعرِف تأويلَه، وما عملَ به مِن شيءٍ عَمِلنا به، فأهلَّ بالتوحيد: لبَّيك(3) اللَّهمَّ لبَّيك(4)، لا شريكَ لك لبَّيك، إنَّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريك لك.
          وأَهَلَّ النَّاس بهذا الَّذي يُهِلُّون به، فلم يَرُدَّ عليهم رسولُ الله صلعم شيئاً منه، ولزِم رسولُ الله صلعم تلبيتَه.
          قال جابر: لسنا ننوي إلَّا الحجَّ، لسنا نعرف العمرةَ، حتَّى إذا أتينا البيت معه استلمَ الرُّكن(5)، فَرَمَلَ ثلاثاً ومشى أربعاً، ثمَّ نَفَذ إلى مقام إبراهيمَ ◙ فقرأ:{وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] فجعل المقامَ بينَه وبين البيت، فكان أبي يقول _ولا أعلمُه ذكره إلَّا عن النَّبيِّ صلعم_ : كان يقرأ في الرَّكعتين: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، و{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، ثمَّ رجع إلى الرُّكن فاستلمه، ثمَّ خرج من الباب إلى الصَّفا، فلمَّا دنا من الصَّفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ} [البقرة:158] أبدأُ بما بدأ به الله. فبدأ بالصَّفا فرَقِيَ عليه(6) حتَّى رأى البيتَ، فاستقبل القِبلةَ، فوحَّد اللهَ وكبَّره وقال: لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ، وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه، أنجزَ وعدَه، ونصرَ عبدَه، وهزمَ الأحزابَ وحدَه. ثمَّ دعا بين ذلك، قال هذا ثلاث مرَّاتٍ، ثمَّ نزل إلى المروة، حتَّى [إذا] انصبَّت قدماه في بطن الوادي رَمَل، حتَّى إذا صَعِدتا مشى حتَّى / أتى المروةَ، ففعل على المروة كما فعل على الصَّفا، حتَّى إذا كان آخرُ طوافه على المروة قال: لو أنِّي استقبلتُ من أمري ما استدْبَرْتُ لم أَسُقِ الهديَ وجَعَلتُها عُمرَةً فَمَن كان منكم ليس معه هدْيٌ فَلْيَحِلَّ ولْيجعَلْها عمرةً. فقام سُراقة بن جُعْشُم فقال: يا رسول الله؛ أَلِعامِنا هذا أم لأبدٍ؟ فشبَّك رسولُ الله صلعم أصابعَه واحدةً في الأخرى وقال: دَخَلَتِ العمرة في الحجِّ _مرَّتين_ لا؛ بل لأبدٍ أبدٍ.
          وقَدِمَ عليٌّ من اليمن بِبُدْنِ النَّبيِّ صلعم، فوجد فاطمةَ مِمَّن حَلَّ ولبست ثياباً صَبيغاً(7) واكتحلت، فأَنكَر ذلك عليها، فقالت: أبي أمرَني بهذا، قال: وكان عليٌّ ☺ وعنها يقول بالعراق: فذهبتُ إلى رسول الله صلعم مُحرِّشاً(8) على فاطمةَ للذي صَنَعَت، مستفتياً لرسول الله صلعم فيما ذَكَرَت عنه، فأخبرتُه أنِّي أنكرت ذلك عليها، فقال: صَدَقَتْ صَدَقَتْ، ماذا قلتَ حين فرضتَ الحجَّ؟ قال: قلت: اللَّهمَّ إنِّي أُهِلُّ بما أَهَلَّ به رسولُك صلعم، قال: فإنَّ معيَ الهدْيَ، فلا تَحِلَّ.
          قال: فكان جماعة الهدْي الَّذي قَدِمَ به عليٌّ من اليمن والَّذي أتى به النَّبي صلعم مئةً قال: فحَلَّ النَّاسُ كلُّهم وقصَّروا إلَّا النَّبيَّ صلعم ومَن كان معه الهدْيُ، فلمَّا كان يومُ التَّروية توجَّهوا إلى مِنىً فأهلُّوا بالحجِّ، وركب رسول الله صلعم فصلَّى بها الظُّهرَ والعصرَ والمغربَ والعشاءَ والفجرَ، ثمَّ مكث قليلاً حتَّى طلعتِ الشَّمسُ، وأمر بقُبَّةٍ من شَعَرٍ تُضربُ له بِنَمِرَةَ، فسار رسول الله صلعم ولا تَشُكُّ قريشٌ إلَّا أنَّه واقفٌ عند المَشْعَر الحرام كما كانت قريشٌ تصنعُ في الجاهليَّة، فأجاز رسول الله صلعم حتَّى أتى عرفةَ، فوجد القُبَّة قد ضُرِبَت له بنَمِرةَ، فنزل بها، حتَّى إذا زاغت الشَّمسُ أمرَ بالقَصواء فرُحِلَت له، فأتى بطنَ الوادي، فخطب / النَّاس وقال:
          إنَّ دماءَكم وأموالَكم حرامٌ عليكم كحُرمة يومِكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألَا كلُّ شيءٍ من أمرِ الجاهليَّة تحت قدمَيَّ موضوعٌ، ودماءُ الجاهليَّة موضوعةٌ، وإنَّ أوَّلَ دمٍ أضعُ من دمائنا دمُ ابن ربيعةَ بن الحارث _كان مُسترضَعاً في بني سعدٍ فقتَلَتْه هُذيلٌ_ ورِبا الجاهليَّة موضوعٌ، وأوَّل رِباً أضع رِبَانا، رِبا عبَّاسِ بن عبد المطَّلب، فإنَّه موضوعٌ كلُّه. فاتَّقوا الله في النِّساء، فإنَّكم أخذتموهنَّ بأمان الله، واستحللْتُم فُروجَهنَّ بكلمة الله، ولكم عليهنَّ ألَّا يُوطِئنَ فُرُشَكم أحداً تكرهونه، فإن فعلنَ ذلك فاضربوهنَّ ضرباً غيرَ مُبَرِّحٍ، ولهنَّ عليكم رِزقُهنَّ وكِسوتُهنَّ بالمعروف.
          وقد تركتُ فيكم ما لن تَضِلُّوا بعده إن اعتصمتُمْ به: كتابَ الله، وأنتم تُسألونَ عَنِّي فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنَّك قد بلَّغت وأدَّيت ونصحت فقال بإصبعِه السَّبابة يرفعُها إلى السَّماء وينكِبُها(9) إلى النَّاس: اللَّهمَّ اشهد، اللَّهمَّ اشهد. ثلاثَ مرَّاتٍ؟
          ثمَّ أذَّن، ثمَّ أقام فصلَّى الظُّهر، ثمَّ أقام فصلَّى العصر، ولم يُصَلِّ بينهما شيئاً، ثمَّ ركب رسولُ الله صلعم حتَّى أتى الموقفَ، فجعل بطنَ ناقته القصواءِ إلى الصَّخرات، وجعل حبلَ المُشاة(10) بين يديه، واستقبل القِبلةَ، فلم يزل واقفاً حتَّى غربتِ الشَّمس وذهبت الصُّفرة قليلاً حتَّى غاب القُرْصُ، وأردفَ أسامةَ خلفَه، ودفع رسول الله صلعم وقد شَنَقَ للقَصواء الزِّمامَ(11)، حتَّى إنَّ رأسَها لَيُصيب مَوْرِك رَحْلِه(12)، ويقول بيده: أيُّها النَّاس؛ السَّكينةَ السَّكينةَ. كلَّما أتى / جبلاً من الجبال أرخى لها قليلاً حتَّى تصعَد، حتَّى أتى المزدلفةَ، فصلَّى بها المغربَ والعشاءَ بأذانٍ واحدٍ وإقامتين، ولم يسبِّح بينهما شيئاً.
          ثمَّ اضطجع رسول الله صلعم حتَّى طلع الفجر، فصلَّى الفجرَ حين تبيَّن له الصُّبح بأذانٍ وإقامةٍ، ثمَّ ركب القصْواءَ حتَّى أتى المشعَر الحرام، فاستقبل القِبلة، فدعاه وكبَّره وهلَّله ووحَّده، فلم يزلْ واقفاً حتَّى أَسْفَرَ(13) جِدَّاً، فدفع قبل أن تطلع الشَّمس وأردفَ الفضْلَ بن عبَّاسٍ، وكان رجلاً حسنَ الشَّعَر أبيضَ وسيماً فلمَّا دفع رسولُ الله صلعم مرَّت ظُعُنٌ(14) يَجرينَ، فطفِق الفضْلُ ينظر إليهنَّ، فوضع رسول الله صلعم يدَه على وجه الفضْلِ، فحوَّل الفضْلُ وجهَه إلى الشِّقِّ الآخرِ ينظرُ، فحوَّل رسول الله صلعم يده من الشِّقِّ الآخرِ على وجه الفضْلِ، فصرف وجهَه من الشِّقِّ الآخر ينظرُ. حتَّى أتى بطْن مُحسِّر، فحرَّك قليلاً، ثمَّ سلك الطَّريقَ الوسطى الَّتي تخرُج على الجمرة الكبرى، حتَّى أتى الجمرة الَّتي عند الشَّجرة، فرماها بسبعِ حَصَياتٍ _يكبِّر مع كلِّ حصاٍة منها_ [مثلِ] حصى الخَذْف، ورمى من بطن الوادي.
          ثمَّ انصرف إلى المَنْحَر، فنحَرَ ثلاثاً وستِّين بيده، ثمَّ أعطى عليَّاً فنحر ما غَبَر(15)، وأشرَكَه في هدْيه، ثمَّ أمر من كلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فجُعِلَت في قِدْرٍ فطُبِخَت، فأكلا من لحمها، وشربا من مَرَقها. ثمَّ ركب رسولُ الله صلعم فأفاض إلى البيت، فصلَّى بمكَّة الظُّهرَ، فأتى بني عبدِ المطَّلب يسقون على زمزمَ، فقال: انزِعوا(16) / بني عبدِ المطَّلب، فلولا أنْ يغلبكم النَّاسُ على سقايتكم لنَزعتُ معكم. فناولوه دَلواً، فشرب منه».
          وفي حديث حفص بن غياث عن جعفرِ بنِ محمَّد(17) نحوُ هذا، وزاد: «وكانت العربُ يدفع بهم أبو سَيَّارةَ على حِمارٍ عُرْي، فلمَّا أجاز رسولُ الله صلعم من المزدلفة بالمشعَر الحرام لم تشكَّ قريشٌ أنَّه سيقتصِر عليه ويكونُ منزلُه ثَمَّ، فأجاز ولم يعرِض له حتَّى أتى عرفاتٍ فنزل».
          وفي حديث حفص أيضاً عن جعفرِ بنِ محمَّد أنَّ رسولَ الله صلعم قال: «نحرتُ ههنا، ومِنىً كلُّها مَنْحَر، فانحروا في رِحالِكم.
          ووقفتُ ههنا، وعرفةُ كلُّها موقفٌ.
          ووقفت ههنا، وجَمْعٌ كلُّها موقفٌ».
          وأخرج مسلم طرفاً منه من حديث سفيانَ عن جعفرِ بنِ محمَّدٍ عن أبيه عن جابرٍ: «أنَّ رسول الله صلعم لمَّا قدم مكَّة أتى الحَجر فاستلمه، ثمَّ مشى على يمينه فرَمَل ثلاثاً ومشى أربعاً».
          وفي حديث مالك وابن جُريجٍ عن جعفرٍ عن أبيه عن جابرٍ: «أنَّ رسول الله صلعم رَمَل الثَّلاثةَ الأطوافِ من الحَجَر إلى الحَجَر».
          وفي حديث مالك وحدَه عن جعفرٍ: «رَمَل من الحَجر الأسود حتَّى انتهى إليه / ثلاثةَ أطوافٍ(18)».


[1] النِّسَاجَة: ضربٌ من الملاحف المنسوجة.
[2] المِشْجَب: أعوادٌ مركبةٌ يوضع عليها الرَّحْل والثياب وقد تقدَّم.
[3] التلبيةُ: معناها إجابةً بعد إجابةً وقد تقدَّم.
[4] زاد في (ق): (لبيك) وهو موافق لنسختنا من رواية مسلم.
[5] استلامُ الرِّكن: مسحه باليد.
[6] رقى على الصفا: صعِد.
[7] الصنيع: المصنوع.
[8] التحرِيشُ: الإغراءُ ووصف ما يوجب عتابَ المنقول عنه وتوبيخَه.
[9] نكب إصبعه: أي أمالها إلى الناس مُشْهِداً الله عليهم، ونكب كِنانته أمالها وكبَّها.
[10] الحبل: ما استطال من الرمل.
[11] شنق زِمام ناقته: أي؛ ضمَّه إليه كفاً لها عن الإسراع، والزِّمام للناقة كالرَّسَن للدَّواب.
[12] مَورِك الرَّحْل: ما يكون بين يدي الرَّحْل يضع الراكب رجله عليه، وورَّك مشددٌ ومخفف.
[13] أسفرَ الصبح: أضاء.
[14] الظَّعَائن: الهوادج كان فيها نساءٌ أو لم يكن، ثم يقال للمرأة: ظعينةٌ من قبيلِ الاستعارة؛ لأنها تكون فيها.
[15] نحر ما غبر: أي ما بقي.
[16] النَّزْع: الاستقاء من البئر باليد.
[17] تحرَّف في (ق) إلى: (محمد بن جعفر بن محمد).
[18] في هامش (ق): (بلغت المقابلة).