الجمع بين الصحيحين للحميدي مع تعقبات الضياء المقدسي

حديث: يا أهل الخندق؛ إن جابراً قد صنع

          1580- السَّابع والخمسون: عن سعيد بن مِيناءَ عن جابرٍ قال: «لمَّا حُفِرَ الخندق رأيت بالنَّبيِّ صلعم خَمَصَاً(1)، فانكفأت(2) إلى امرأتي، فقلت: هل عندكِ شيءٌ؟ فإنِّي رأيت برسول الله صلعم خَمَصَاً شديداً. فأخرجتْ إليَّ جِراباً فيه صاعٌ من شعيرٍ ولنا بُهَيمةٌ داجنٌ(3)، فذبحتُها، وطَحَنَتْ، فَفَرَغَتْ إلى فراغي، / وقَطَّعْتُها في بُرْمَتها، ثمَّ ولَّيتُ إلى رسول الله صلعم، فقالت: لا تفضحْني برسول الله صلعم ومَن معه، فجئته فسارَرْتُه فقلت: يا رسول الله؛ ذبحنا بُهَيمةً لنا، وطَحنتُ صاعاً من شعيرٍ كان عندنا، فتعال أنت ونفرٌ معك، فصاح النَّبي صلعم فقال: يا أهل الخندق؛ إنَّ جابراً قد صنع لكم سُوراً(4)، فحيَّ هلاً بكم.
          فقال رسول الله صلعم: لا تُنزِلُنَّ بُرمَتَكم، ولا تَخبِزُنَّ عجينَكم حتَّى أجيءَ. فجئت وجاء رسول الله صلعم يَقدُم النَّاسَ، حتَّى جئت امرأتي، فقالت: بكَ وبكَ، فقلت: قد فعلتُ الَّذي قلتِ، فأخرجت عجيننا فبَسَق فيه(5) وبارك ثمَّ عَمَد إلى بُرمَتنا فبصق وبارك، ثمَّ قال: ادعُ خابزةً فلْتخبِز معكِ، واقدحي(6) من بُرمتكم، ولا تُنزِلوها. وهم ألفٌ.
          فأُقسِم بالله لَأَكلوا حتَّى تركوه وانحرفوا وإنَّ بُرمَتنا لتَغِطُّ(7) كما هيَ، وإنَّ عَجينَنا ليُخبَز كما هو!». [خ¦3070]
          وأخرجه البخاريُّ من حديث عبد الواحد بنِ أيمنَ عن أبيه قال: أتيتُ جابراً فقال: «إنَّا يومَ الخندقِ نحفِر، فعَرضَت كُدْيَةٌ شديدةٌ، فجاؤوا النَّبيَّ صلعم / فقالوا: هذه كُدْيَةٌ عَرضَت في الخندقِ، فقال: أنا نازلٌ. ثمَّ قامَ وبطنُه مَعصُوبٌ(8)، ولَبِثْنا ثلاثةَ أيَّامٍ لا نذوقُ ذَواقاً، فأخذَ النَّبيُّ صلعم المِعْوَلَ فضربَ فعادَ كَثيباً أَهْيَلَ(9) _أو أَهْيَمَ_ فقلتُ: يا رسول الله؛ ائذَنْ لي إلى(10) البيتِ، فقلتُ لامرأتي: رأيتُ بالنَّبيِّ صلعم شيئاً ما في ذلك صَبرٌ، فعندك شيءٌ؟ قالت: عندي شعيرٌ وعَناقٌ(11)، فذبَحْتُ العَناقَ، وطحَنَتِ الشَّعيرَ(12)، حتَّى جعلنا اللَّحمَ في البُرمَةِ، ثمَّ جئتُ النَّبيَّ صلعم والعجينُ قد انكسرَ والبُرمَةُ بين الأَثافي قد كادَت أن تَنضُجَ، فقلت: طُعَيِّمٌ لي، فَقُم أنتَ يا رسول الله ورجلٌ أو رجُلانِ، قال: كم هو؟ فذكرتُ له قال: كثيرٌ طيِّبٌ.
          قال: قُل لها لا تَنزِعِ البُرمَةَ ولا الخبزَ من التَّنُّورِ حتَّى آتيَ.
          فقال: قوموا. فقامَ المهاجِرون والأنصارُ، فلمَّا دخلَ على امرأته قال: ويحكِ! جاء النَّبيُّ صلعم بالمهاجرين والأنصارِ ومَن معهم، قالت: هل سألكَ؟ قلت: نعم.
          فقال: ادخلوا ولا تضاغَطُوا(13). فجعل يكسر(14) الخبزَ ويجعلُ عليه اللَّحمَ ويخمِّرُ البُرمَةَ والتَّنُورَ إذا أَخذ منه، ويُقرِّبُ إلى أصحابه ثمَّ ينزِع، فلم يَزل يكسِر / ويغرِف حتَّى شبِعوا وبقيَ منه، فقال: كُلِي هذا وأَهدي، فإنَّ النَّاس أصابتهم مَجاعةٌ». [خ¦4101]


[1] الخميص: البطنُ الضامر كأنه استدل بذلك على الجوع والحاجة إلى الطعام، والمَخمَصة: المجاعة.
[2] انكفأ الرجل إلى أهله: رجع وانقلب، والأصل في الانكفاء الانقلاب من كَفَأْتُ الإناءَ إذا قلبتَه.
[3] الدَّاجن: ما أَلِفَ البيت من الغنم.
[4] صنع سُوراً: أي طعاماً يدعو إليه وهذه لفظة فارسية، قال الهروي: وفي هذا أن رسول الله صلعم قد تكلم بالفارسية.(ق) نحوه.
[5] زاد في (ابن الصلاح): (رسول الله صلعم) وما أثبتناه موافق لنسختنا من رواية مسلم، وعنده: (فبصق) بالصاد.
[6] قَدَحَ القِدرَ: إذا غرف ما فيها، والقديح: المرق فعيل في معنى مفعول، والمقدحة: المغرفة، والمقدح الحديدة التي تقدح بها النار أي تستخرج، والقدَّاح الحجر وهذا كله اتفاق في معنى الاستخراج.
[7] غَطَّت القِدرُ تغُطُّ وغَطِيْطُها: صوتُ غليانها.
[8] وهو معصوب البطن: أي مشدودٌ بالعِصابة من الجوع.
[9] الكثيب الأهْيَل: المنهار السائل الذي لا يتماسك في انصبابه، والكثيبُ الأهيم مثلُه وهو الرمل اليابس الذي لا يمر به ماء السماء فهو إلى الانصباب والسيلان أسرع.
[10] في (ق): (آتي)، وفي هامشها نسخة: (إلى)، وما أثبتناه من باقي الأصول موافق لنسختنا من رواية البخاري.
[11] العَنَاق: الأنثى من أولاد المعز.
[12] سقط قوله (الشعير) من (ابن الصلاح).
[13] ولا تَضَاغَطُوا: أي لا تزاحموا.
[14] في (ابن الصلاح): (يلمس)، وما أثبتناه من باقي الأصول موافق لنسختنا من رواية البخاري.