الجمع بين الصحيحين للحميدي مع تعقبات الضياء المقدسي

حديث: قال رجل لابن عباس: إني أجد في

          1126- السَّادس والخمسون: عن المنهال بن عمرو عن سعيد قال رجلٌ لابن عبَّاسٍ: إنِّي أجدُ في القرآن أشياءَ تختلِف عليَّ! قال: «{فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ} [المؤمنون:101]، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} [الصافات:27].
          {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا} [النساء:42]، {وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام23] فقد كتموا في هذه الآية.
          وقال: {أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا...} إلى قوله: {دَحَاهَا (1)} [النازعات:27-30]فذَكر خَلق السَّماء قبل خلق الأرض، ثمَّ قال: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ...} إلى {طَائِعِينَ} [فصلت:9-11] فذكَر في هذه خَلق الأرض قبل خلق السَّماء.
          وقال: {وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء:96]، {عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:56]، {سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58] فكأنَّه كان ثمَّ مضى. /
          فقال: {فَلَا أَنسَابَ} [المؤمنون:101] في النَّفخة الأولى، ثمَّ {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللهُ} [الزمر:68] فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءلون، ثم في النَّفخة الآخرة: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} [الطور:25]، وأمَّا قوله: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام23] {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا} [النساء:42] فإنَّ الله يغفِر لأهل الإخلاص ذنوبهم، وقال المشركون: تعالوا نقول: لم نكن مشركين، فختم على أفواههم، فتَنطِق أيديهم، فعند ذلك عُرف أنَّ الله لا يُكتَمُ حديثاً، وعنده: {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} الآية [الحجر:2].
          وخلَق الأرض في يومين، ثمَّ خلَق السَّماء، ثمَّ استوى إلى السَّماء فسوَّاهنَّ في يومين آخرين، ثمَّ دحى الأرض، ودحيُها أن أخرَج منها الماء والمرعى، وخلَق الجبال والآكام وما بينهما في يومين آخرين، فخُلِقَت الأرض وما فيها من شيءٍ في أربعة أيَّامٍ، وخُلِقَت السَّماوات في يومين.
          و{وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء:96] سَمَّى نفسه ذلك، وذلك قوله، أي لم أزل كذلك.
          فإنَّ الله لم يُرِد شيئاً إلَّا أصاب به الَّذي أراد، فلا يختلف عليك القرآن، فإنَّ كلَّاً من عند الله». [خ¦4815]
          اختصَره البخاريُّ أو بعضُ الرُّواة.
          وأخرجه البرقانيُّ من حديث يوسف بنِ عديٍّ الَّذي أخرجه البخاريُّ عنه بأتَمَّ ألفاظاً: أنَّ ابنَ عبَّاسٍ جاءه رجلٌ، فقال: يا أبا عبَّاسٍ، إنِّي أجدُ في القرآن أشياءَ تختلِف عليَّ، فقد وقَع ذلك في صَدري! فقال ابن عبَّاسٍ: «أتكذيبٌ؟» فقال الرَّجل: ما هو بتكذيبٍ، ولكن اختلافٌ، قال: فهلمَّ [ما وقع في نفسك. فقال له الرَّجلُ: أسمَع الله يقول: {فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ} [المؤمنون:101]، وقال في آيةٍ أخرى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} [الصافات:27].
          وقال في آيةٍ أخرى: {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا} [النساء:42]، وقال في آيةٍ أخرى: {وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام23] فقد كتمُوا في هذه الآية.]
/
          [وفي قوله: {أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا. رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا. وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:27-30] فذكَر في هذه الآية خَلْق السَّماء قَبْل الأرض، وقال في الآية الأخرى: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:9-11].
          وقوله: {وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء:96] {وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:158] {وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:134] فكأنَّه كان ثمَّ مضى(2).
          فقال ابن عبَّاسٍ: هات ما في نفسِك من هذا، فقال السَّائلُ: إذا أنبَأتني بهذا فحَسبي.]

          [قال ابن عبَّاسٍ: «قوله: {فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ} [المؤمنون:101] فهذا في النَّفخة الأولى،] ينفخ في الصُّور فيصعَق {مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللهُ} [النمل:87]، ثمَّ إن كان في النَّفخة الأخرى قاموا، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} [الصافات:27].
          وأمَّا قول الله تعالى: {وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام23] وقوله: {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا} [النساء:42] فإنَّ الله تعالى يغفرُ يومَ القيامة لأهل الإخلاص ذنوبَهم، لا يتعاظم عليه ذنبٌ أن يغفِرَه، ولا يغفِرُ شِركاً، فلمَّا رأى المشركون ذلك قالوا: إنَّ ربَّنا يغفرُ الذُّنوبَ ولا يغفِر الشِّرك، تعالوا نقول: إنَّا كنَّا أهل ذنوبٍ ولم نكن مشركين، فقال الله تعالى: أمَّا إذا كتموا الشِّرك فاختِموا على أفواهِهم، فيُختَم على أفواههم، فتنطِق أيديهم وأرجلُهم بما كانوا يكسِبون، فعند ذلك عرَف المشركون أنَّ الله لا يُكتَم حديثاً، فذلك قوله: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا} [النساء:42].
          [وأمَّا قوله: {السَّمَاء بَنَاهَا. رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا. وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} / [النازعات:27-30] فإنَّه خلق الأرض في يومين قبل خلق السَّماء، ثمَّ استَوى إلى السَّماء فسوَّاهُنَّ في يومَين آخرَين، يعني ثمَّ دحى الأرض، ودحيُها أن أخرَج منها الماءَ والمرعى، وشقَّ فيها الأنهار، وجعَل فيها السُّبلَ، وخلَق الجبالَ والرِّمال والآكامَ وما فيها في يومَين آخرَين، فذلك قوله: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30].
          وقوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ} [فصلت:9-10] فجُعِلت الأرضُ وما فيها من شيءٍ في أربعة أيَّام، وجُعِلت السَّماواتُ في يومَين.
          وأمَّا قوله: {وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء:96] {وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:158] {وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:134] فإنَّ الله تعالى جعَل نفسَه ذلك، وسَمَّى نفسَه ذلك، ولم ينحَله أحداً غيرَه، وكان الله؛ أي: لم يزل كذلك».
          ثمَّ قال ابنُ عبَّاسٍ: «احفظ عنِّي ما حدَّثتُك، واعلَم أنَّ ما اختلَف عليك من القرآن أشباه ما حدَّثتُك، فإنَّ الله تعالى لم يُنْزِل شيئاً إلَّا قد أصاب به الَّذي أراد، ولكنَّ النَّاسَ لا يعلمون، فلا يختلِفنَّ عليك القرآنُ، فإنَّ كلَّاً من عند الله ╡».]

          وهكذا رواه يعقوب بن سفيان في «تاريخه» عن يوسف بن عدي كما رواه البرقاني، وإنَّما يختلفان في يَسيرٍ من الأحرُف.


[1] دحاها: بسَطَها، والدحو: البَسْط.
[2] تحرف في الأصلين إلى (يقضى).