الجمع بين الصحيحين للحميدي مع تعقبات الضياء المقدسي

حديث: امح رسول الله

          857- الرَّابع عشر: في صُلح أهل مكَّة عام الحديبية: عن أبي إسحاق عن البراء قال: «اعتمر رسول الله صلعم في ذي القَعدة، فأبى أهل مكَّة أن يَدَعُوه يدخل مكَّة حتَّى قاضاهم على أن يدخل _يعني من العام المقبل_ يُقيم بها ثلاثة أيَّامٍ، فلمَّا كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمَّدٌ رسول الله(1)، قالوا: لا نُقِرُّ بِهَا، فلو نعلم أنَّك رسول الله ما منعناك، ولكن أنت محمَّد بن عبد الله، ثمَّ قال لعليٍّ: امحُ رسولَ الله.
          قال: لا والله، لا أمحوك أبداً، فأخذ رسول الله صلعم الكتاب فكتب: هذا ما قاضى عليه محمَّد بن عبد الله، لا يدخلُ مكَّة بسلاحٍ إلَّا في القِراب(2)، وإلِّا يَخْرُجَ من أهلها بأحدٍ إن أراد أن يتَّبعَه، وإلِّا يمنع أحداً من أصحابه أراد أن يقيم بها، فلمَّا دخلَها ومضى الأجل أتَوا عليَّاً فقالوا: قُلْ لصاحبك: اخْرُجْ عَنَّا، فقد مضى الأجل، فخرج رسولُ الله صلعم، فتبعَتْهم بنتُ حمزةَ تنادي: يا عمِّ يا عمِّ، فتناولها عليٌّ فأخذ بيدها، وقال لفاطمة: دونَكِ ابنةَ عمِّكِ، فاحتَمَلها، فاختصم فيها عليٌّ وزيدٌ وجعفرٌ، فقال عليٌّ: أنا أحقُّ بها، / وهي ابنة عمِّي، وقال جعفر: بنت عمِّي، وخالتُها تحتي، وقال زيدٌ: بنت أخي، فقضى بها النَّبيُّ صلعم لخالتها، وقال: الخالةُ بمنزلة الأمِّ.
          وقال لعليٍّ: أنت منِّي وأنا منك.
          وقال لجعفر: أشبهتَ خَلقي وخُلُقي.
          وقال لزيد: أنت أخونا ومَولانا».
          وفي حديث شعبة: «لَمَّا صالَح رسولُ الله صلعم أهلَ الحديبية كتب عليٌّ بينهم كتاباً، كتب: محمَّدٌ رسول الله، فقال المشركون: لا تكتب محمَّدٌ رسول الله، لو كنتَ رسولَ الله لم نقاتِلك، ثمَّ قال لعليٍّ: امْحُهُ.
          فقال عليٌّ: ما أنا بالَّذي أمحوه، فمحاه رسول الله صلعم بيده، وصالحهم على أن يدخل هو وأصحابه ثلاثةَ أيَّامٍ، ولا يدخُلُوها إلَّا بِجُلُبَّان السِّلاح(3)». [خ¦2698]
          فسألوه ما جُلُبَّان السِّلاح؟ قال: القِراب بما فيه.
          والمسؤول عن جُلُبَّان السِّلاح هو أبو إسحاق، بَيَّن ذلك معاذٌ العَنْبري في حديثه، قال: قال شعبة: قلت لأبي إسحاق: ما جُلُبَّان السِّلاح؟ قال: القِراب وما فيه. /
          وقال موسى بن مسعود في حديثه: «صالح النَّبيُّ صلعم المشركين يومَ الحديبية على ثلاثة أشياء: على أنَّ مَن أتاه من المشركين ردَّه إليهم، ومَن أتاهم من المسلمين لم يردُّوه، وعلى أن يدخلَها من قابلٍ ويقيمَ بها ثلاثة أيَّامٍ، ولا يدخلَها إلَّا بِجُلُبَّان السِّلاح، السَّيفِ والقوسِ ونحوه. فجاء أبو جَنْدَلٍ يَحجُل(4) في قيوده، فردَّه إليهم». [خ¦2700]
          وفي حديث يوسف بن أبي إسحاق: «أنَّ النَّبيَّ صلعم لَمَّا أراد أن يعتمرَ أرسل إلى أهل مكَّة يستأذنهم ليدخل مكَّة، فاشترطوا عليه ألَّا يقيمَ بها إلَّا ثلاث ليالٍ، ولا يدخلَها إلَّا بِجُلُبَّان السِّلاح، ولا يدعوَ منهم أحداً، قال: فأخذ يكتب الشَّرط بينهم عليُّ بن أبي طالب، فكتب: هذا ما قاضى عليه محمَّدٌ رسول الله، فقالوا: لو علمنا أنَّك رسول الله لم نمنعْك وبايعناك، ولكن اكتب: محمَّدُ بن عبد الله، فقال: أنا والله محمَّد بن عبد الله، وأنا رسول الله.
          قال: وكان لا يكتب، فقال لعليٍّ: امْحُ: رسولَ الله.
          فقال: والله لا أمحوه أبداً، قال: فأَرِنيه. فأراه إيَّاه، فمحاه رسول الله صلعم بيده، فلمَّا دخل ومضى الأجلُ أَتَوا عليَّاً فقالوا: مُرْ صاحبَكَ فليرتحِل، فذكر ذلك عليٌّ لرسول الله صلعم، فقال: نعم. ثمَّ ارتحل». [خ¦3184]
          وفي رواية إسرائيل عن أبي إسحاق: «ثمَّ قال لعليٍّ: امْحُ: رسولَ الله.
          قال: لا / والله، لا أمحوك أبداً، فأخذ رسول الله صلعم الكتاب(5) _وليس يُحسِن يكتُب_ فكتب: هذا ما قاضى عليه محمَّد بن عبد الله...» الحديث نحوه.
          وفيه ذِكرُ بنتِ حمزة، والأخذُ لها، والخصومةُ فيها. [خ¦1844]
          قال أبو مسعود في «الأطراف»: [«فأخذ النَّبيُّ صلعم الكتاب وليس يُحسِنُ أن يكتبَ، فكتبَ(6) مكانَ رسولُ الله: محمَّداً، وكتب: هذا ما قاضى عليه محمَّد...»] فذكره، وليس هذا هكذا فيما عندنا من «الصَّحيحين».


[1] هذا ما قاضى عليه رسول الله صلعم: من القضاء وهو إحكام الأمر وامضاؤه، قال الأزهري: قضى في اللغة على وجوه مرجِعُها إلى انقطاع الشيء وتمامِه.
[2] القِراب: قِراب السيف، وهو ما يوضَع فيه بغِمده وهو شِبه جِراب وجمعُه قُرُبٌ؛ وأرادوا في صُلحهم أن يُستَرَ السلاحُ ولا يظهرَ.ويقال له أيضاً جُلُبَّانُ: وهو القِرابُ وما فيه كذا قال، والتفسير متصل بالحديث.قال الأزهري القِرابُ: غِمد السيف.
[3] الجُلُبَّان: شِبهُ الجِرابِ من الأَدَمِ يوضَع فيه السيفُ مغموداً ويطرَحُ فيه الراكب سوطَه وأداتَه ويعَلّقُه من آخِرَة الرَّحلِ أو واسطتِه.قال شَمِرٌ: كأن اشتقاق الجلُبَّان من الجُلْبة وهي الجِلْدَة التي تُجعَل على القَتَب وهي كالغِشاء للقِراب، يقال: أجلَبَ فيه إذا غشَّاهُ الجُلْبةَ، وكذلك الجِلدةُ التي تغَشّى به التَّمِيمةُ تسمَّى جُلُبَّاناً.
قال ابن قتيبة: جُلُبَّان بضم اللام وتشديد الباء، قال: ولا أُراهُ سمّيَ بذلك إلا لجَفائه، وكذلك قيل: للمرأة الغليظة الجافية جُلُبَّانة، وفي بعض الروايات: ولا ندخلُها إلا بجُلُبَّانِ السلاحِ السيفِ والقوسِ ونحوِه يريد ما كان مُغمَداً يَحتاجُ في إظهاره إلى معاناةٍ لا بالقَنا ولا بالرِّماح لأنها أسلحة مُظهَرَة يمكِنُ تعجيلُ الأذى بها.
[4] حَجَل في مشيه: إذا قارَبَ الخَطوَ إما لقَيدٍ أو لتبَختُرٍ، ويكون أعجَلَ القفْز، ونَزَوانُ الغُرابِ أيضاً حَجَلٌ، ومن ذلك ما يروى (أنه لما قال لزيدٍ أنت مولانا: حَجَلَ).قال أبو عبيد: الحجَلُ أن يرفَع رِجْلاً ويقفِزَ على الأخرى من الفرَحِ، وقد يكون بالرِّجلَين جميعاً.
[5] سقط قوله: (الكتاب) من (أبي شجاع).
[6] في (أبي شجاع): (فكان).