-
مقدمة المؤلف
-
السبب الباعث للبخاري على تصنيف جامعه
-
في بيان موضوعه والكشف عن مغزاه فيه
-
في تقطيعه للحديث واختصاره وإعادته له
-
في سبب في إيراده للمعلقات
-
في سياق الألفاظ الغريبة الواردة على المعجم
-
في المؤتلف والمختلف والكُنَى والألقاب والأنساب
-
في الأسماء المهملة التي يكثر اشتراكها
-
في الأحاديث التي انتقدها الدارقطني وغيره
-
أسماء من طعن فيه مرتباً على المعجم
-
في عد أحاديث الجامع
- ترجمة الإمام البخاري
ذِكْرُ جُمَلٍ من الأخبارِ الشاهدةِ لِسعَةِ حفظِهِ، وسيلانِ ذهنِهِ، واطلاعِهِ على العِلَلِ سِوَى ما تقدَّمَ:
أخبرني أَبُوْ العَبَّاسِ البَغْدَادِيُّ عَنْ الحَافِظِ أَبِي الْحَجَّاجِ المِزِّيِّ أنَّ أَبَا الفَتْحِ الشَّيْبَانِيِّ أخبرَهُ أَخْبَرَنَا أَبُوْ اليَمْنِ الكِنْدِيُّ ح وأَخْبَرَنِي شيخُ الحُفَّاظِ أَبُوْ الفَضْلِ بْنُ العِرَاقِيِّ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيْمَ المَيْدُوْمِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُوْ الفَرَجِ عَبْدُ اللَّطِيْفِ بْنُ عَبْدِ المُنْعِمِ أَخْبَرَنَا أَبُوْ الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الجَوْزِيِّ قَالَا أَخْبَرَنَا أَبُوْ مَنْصُوْرٍ القَزَّازُ أَخْبَرَنَا الخَطِيْبُ أَبُوْ بَكْرِ بْنُ ثَابِتٍ الحَافِظُ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الحَسَنِ السَّاحِلِيُّ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الحُسَيْنِ الرَّازِيُّ سمعتُ أَبَا أَحْمَدَ بْنَ عَدِيٍّ الحافظُ يقولُ: سمعتُ عِدَّةَ مشايخَ بِبغداد يقولونُ: إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيُّ قَدِمَ بغدادَ فسمعَ بهِ أَصْحَابُ الحديثِ فَاجْتَمَعُوْا، وأرادُوْا امتحانَ حِفْظِهِ، فَعَمَدُوْا إلى مائةِ حديثٍ فَقَلَبُوْا مُتُوْنَهَا وأسانِيْدَهَا، وجَعَلُوْا متنَ هذا الإسنادِ لإسنادٍ آخرَ، وإسنادَ هذا المتنِ لمتنٍ آخرَ، ودَفَعُوْهَا إلى عشرةِ أَنْفُسٍ لكلِّ رجلٍ عشرةُ أحاديثَ، وأَمَرُوْهُمْ إذا حَضروا المجلسَ أن يُلقوا ذلكَ على البُخَارِيِّ، وأخَذوا عليهِ الموعدَ للمجلسِ، فَحَضَرُوْا وحضرَ جَمَاعَةٌ من الغربَاءِ من أهلِ خُراسانَ وغيرُهُمْ، ومن البَغْدَادِيِّيْنَ.
فلمَّا اطْمَأَنَّ المجلسُ بأهلهِ انتدبَ رَجُلٌ من العشرةِ فسألهُ عن حديثٍ من تلكَ الأحاديثِ، فَقالَ البُخَارِيُّ: لا أعرفُهُ، فما زالَ يُلقِي عليهِ وَاحِدَاً واحِداً حتى فَرِغَ، والبُخَارِيُّ يقولُ: لا أعرفُهُ. فكانَ العلماءُ مِمَّنْ حَضَرَ المجلسَ يلتفتُ بَعضهم إلى بعضٍ، ويقولونَ: فَهِمَ الرجلُ، ومن كانَ لم يدرِ القِصَّةَ يَقضي على البُخَارِيِّ بالعجزِ والتقصيرِ وقلَّةِ الْحِفْظِ، ثم انتدبَ رجلٌ من العشرةِ أيضاً فسألَهُ عن حديثٍ من تلكَ الأحاديثِ المقلوبَةِ، فَقَالَ: لا أعرفُهُ، فسألهُ عن آخرَ فَقَالَ: لا أعرفُهُ، فلم يزلْ يُلْقِي عليهِ وَاحِدَاً وَاحِدَاً حتى فَرِغَ من عشرَتِهِ، والبُخَارِيُّ يقولُ: لا أعرفُهُ، ثم انتدبَ الثَّالثَ والرَّابعَ إلى تمامِ العشرَةِ، حتى فَرِغُوْا كُلُّهُمْ من إلقاءِ تلكَ الأحاديث المقلوبةِ، والبُخَارِيُّ لا يزيدُهم على: لا أعرفُهُ.
فلمَّا علمَ أَنَّهُمْ قد فَرغوا التفتَ إلى الأوَّلِ، فَقَالَ: أما حديثكَ الأوَّلُ فقلتَ كَذَا، وصوابُهُ كذا، وحديثُكَ الثَّانِي كذا، وصوابُهُ كذا، والثَّالِثُ والرَّابِعُ على الوَلَاءِ، حتى أَتَى على تمامِ العَشَرَةِ، فردَّ كل مَتْنٍ إلى إسنادِهِ، وكلَّ إسنادٍ إلى مَتْنِهِ، وفعلَ بالآخرينَ مثلَ ذلكَ، فأقرَّ النَّاسُ له بالحفظِ، وأَذْعَنُوْا له بالفضلِ.
قلتُ: هنا يخضعُ للبُخَارِيِّ، فما العجبُ من ردِّهِ الخَطَأَ إلى الصَّوَابِ؛ [306/أ] فإنه كانَ حَافظاً، بل العَجَبُ من حِفْظِهِ للخَطَأ / على ترتيبِ ما ألقوهُ عليهِ من مَرَّةٍ واحدةٍ.
ورويْنَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الكَلْوَذَانِيِّ قَالَ: ما رأيتُ مثلَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيْلَ كانَ يأخذُ الكِتَابَ من العلمِ فيطَّلِعُ عليهِ اطِّلَاعَةً فيحفظُ عامةَ أطرافِ الأحاديثِ من مرةٍ واحدةٍ، وقد سبقَ ما حكاهُ حَاشِدُ بْنُ إِسْمَاعِيْلَ في أيامِ طَلَبِهِمْ بالبصرةِ معهُ، وكونُهُ كانَ يحفظُ ما يسمعُ ولا يكتبُ، وقالَ أَبُوْ الأَزْهَرِ: كانَ بِسَمَرْقَنْدَ أربعمائةِ مُحَدِّثٍ، فتَجَمَّعُوْا وأَحَبُّوْا أن يُغَالِطُوْا مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيْلَ فأَدْخَلُوْا إسنادَ الشامِ في إسنادِ العِرَاقِ، وإسنادَ العراقِ في إسنادِ الشامِ، وإسنادَ الحرمِ في إسنادِ اليَمَنِ، فما اسْتطاعوا مع ذلكَ أن يَتَعَلَّقُوْا عليهِ بِسَقْطَةٍ.
وقالَ غُنْجَارٌ في ((تاريخهِ)) سمعتُ أَبَا القَاسِمِ مَنْصُورَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيْمَ الْأَسَدِيَّ يقولُ: سمعتُ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيْمَ يقولُ: سمعتُ يُوْسُفَ بْنَ مُوْسَى الْمُرْوَزِيَّ يقولُ: كنتُ بالبصرةِ في جَامِعِهَا إذ سمعتُ مُنَادياً يُنادِي: يا أهلَ العلمِ لقد قَدِمَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيُّ فَقَامُوْا إليهِ، وكنتُ معهم فَرَأَيْنَا رَجُلاً شَاباً ليسَ في لحيتهِ بياضٌ، فَصَلَّى خلفَ الأسطوانَةِ فلما فَرَغَ أَحْدَقُوْا بِهِ، وسألوهُ أن يعقدَ لَهُمْ مَجْلِسَاً للإملاءِ فَأَجابهم إلى ذلكَ، فقامَ المُنَادِي ثَانياً في جامعِ البصرَةِ، فَقَالَ: يا أهلَ العلمِ لقد قَدِمَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيُّ فسألناهُ بأنْ يعقدَ مجلسَ الإملاءِ فأجابَ بأنْ يجلسَ غَداً في موضعِ كذا، فلما كانَ بالغدِ حضرَ المحدثونَ، والْحُفَّاظُ، والفُقَهَاءُ، والنَّظَارَةُ، حتى اجتمعَ قريبٌ من كذا كذا ألفُ نفسٍ، فجلسَ أَبُوْ عَبْدِ اللهِ للإملاءِ فَقالَ قبلَ أن يأخذَ في الإملاءِ: يا أهلَ البصرَةِ أنا شابٌّ، وقد سألتُمُوْنِي أن أُحَدِّثَكُمْ، وسأحدثكُم بأحاديثَ عن أهلِ بَلَدِكُمْ تَستفيدُونها _يَعْنِي ليسَتْ عِنْدَكُم_ قَالَ: فتعجَّبَ النَّاسُ من قولِهِ، فأخذَ في الإملاءِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ جَبْلَةَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ العُتُكِيُّ بَلَدِيُّكُمْ قالَ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مَنْصُورٍ وغيرِهِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الجَّعْدِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَعْرَابِيَّاً جَاءَ إلى النَّبِيِّ صلعم فَقَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ الرَّجُلُ يُحِبُّ القَوْمَ، الحديثُ، ثم قَالَ: هذا ليسَ عندكُم عَنْ مَنْصُوْرٍ إنما هو عندَكُمْ عَنْ غيرِ مَنْصُوْرٍ، قالَ يُوْسُفُ بْنُ مُوْسَى: فَأَمْلَى عَلَيْهِمْ مَجْلِسَاً من هذا النَّسَقِ يقولُ في كُلِّ حديثٍ: رَوَى فلانٌ هذا الحديثَ عِندكم [306/ب] كذا، فأمَّا من روايةِ فلانٍ يَعْنِي الَّتِي يَسُوْقُهَا فليسَتْ عِنْدَكُمْ.
وقالَ حَمْدَوَيْهُ بْنُ الْخَطَّابِ: لما قَدِمَ البُخَارِيُّ قدمتهُ الأخيرةُ من العراقِ، وتلقَّاهُ مَن تلَقَّاهُ من النَّاسِ، وازْدَحموا عَلَيْهِ، وبَالَغُوْا في بِرِّهِ قيلَ لهُ في ذلكَ، فَقَالَ: كيفَ لو رَأَيْتُمْ يومَ دُخُوْلِنَا البصرةَ؟ كأنهُ يُشيرُ إلى قِصَّةِ دُخُوْلِهِ الَّتي ذكَرَهَا يُوْسُفُ بْنُ مُوْسَى.
أنبئتُ عَنْ أَبِي نَصْرِ بْنِ الشِّيْرَازِيِّ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ الحَافِظَ أَبَا القَاسِمِ بنَ عَسَاكِرَ أخبرهُمَ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ أَنْبَأَنَا أَبُوْ بَكْرِ بْنُ خَلَفٍ أَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ أَبُوْ عَبْدِ اللهِ (ح) وقرأتُهُ عالياً على أَبِي بَكْرٍ الفَرَضِيِّ عَنْ القَاسِمِ بْنِ مُظَفَّرٍ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ الحافظِ أَبِي الفَضْلِ بْنِ نَاصِرٍ، وأَبِي الفَضْلِ المَيْهَنِيِّ قَالَا: أَخْبَرَنَا أَبُوْ بَكْرِ بْنُ خَلَفٍ قَالَ ابْنُ نَاصِرٍ إجازةً: أَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُوْ سَعِيْدٍ أَحْمَدُ بْنُ محمَّدٍ النَّسَوِيُّ حَدَّثَنِي أَبُوْ حَسَّانٍ مُهِيْبُ بْنُ سُلَيمٍ سمعتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيَّ يقولُ: اعْتَلَلْتُ بنَيْسَابُوْرَ عِلَّةً خفيفةً وذلكَ في شهرِ رمضانَ فَعَادَنِي إِسْحَاقُ بْنُ رَاهُوْيَهٍ في نفرٍ من أصحابِهِ / فقالَ لِي: أفطرتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، فقلت: نعم، فَقَالَ: يَعْنِي تَعَجَّلْتَ في قبولِ الرخصةِ. فقلتُ: أَخْبَرَنَا عَبْدَانُ عَنْ ابْنِ المُبَارَكِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قلتُ لعَطَاءٍ: مِنْ أَيِّ المرضِ أُفْطِرَ؟ قَالَ: مِنْ أيِّ مرضٍ كانَ، كَمَا قالَ اللهُ ╡: {فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيْضاً} [الْبَقَرَة:184] قالَ البُخَارِيُّ: لم يكنْ هَذَا عِنْدَ إِسْحَاقَ، وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِيْ حَاتِمٍ الوَرَّاقُ: سَمعتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيْلَ يقولُ: لو نُشِرَ بعضُ اسنَادِي هؤلاءِ لم يَفْهموا كيفَ صنفتُ ((التاريخَ))، ولا عرفُوْهُ، ثم قَالَ: صنفتُهُ ثلاثَ مَرَّاتٍ.
وقالَ أُحَيْدُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ وَالِي بُخَارَى: قالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيْلَ يَوْمَاً: رُبَّ حديثٍ سمعتهُ بالبصرةِ كتبتهُ بالشامِ، ورُبَّ حديثٍ سمعتُهُ بالشامِ كتبتهُ بمصرَ، فقلتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ بتمامهِ فسكَتَ، وقالَ سُلَيْمُ بْنُ مُجَاهِدٍ: قالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيْلَ: لا أجيءُ بحديثٍ عن الصَّحابةِ والتَّابعينَ إِلَّا عرفتُ مولِدَ أكثرَهُمْ، ووفاتَهُمْ، ومَسَاكِنَهُمْ، ولستُ أَروي حَديثاً من حديثِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ يَعْنِي من الموقوفاتِ إِلَّا ولهُ أصلٌ أحفظُ ذلك عن كِتَابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِهِ.
وقال عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ بْنِ عَاصِمٍ البَيْكَنْدِيُّ: قَدِمَ عَلينا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيْلَ فَقال له رجلٌ مِنْ أصحَابِنَا: سمعتُ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهُوْيَهٍ يقولُ: كأنِّي أنظرُ إلى سبعينَ ألف حديثٍ من كِتَابي، فَقالَ لهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيْلَ: أَوَ تَعْجَبُ مِنْ هَذَا؟ لَعَلَّ في [307/أ] هذا الزمانِ من ينظرُ إلى مِائتي ألفِ حديثٍ من كِتَابِهِ، وإنَّمَا عَنَى نَفْسَهُ.
وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدَوَيْهٍ: سمعتُ البُخَارِيَّ يقولُ: أحفظُ مائةَ ألفِ حديثٍ صحيحٍ، وأحفظُ مائتَي ألفِ حديثٍ غيرِ صحيحٍ، وقالَ وَرَّاقُهُ: سمعتُهُ يقولُ: ما نِمْتُ البارِحَةَ حتى عَدَدْتُ كم أدخلتُ في تَصَانِيْفِي من الحديثِ، فإذا نحوُ مِائتي ألفِ حديثٍ، وقالَ أَيضاً: لو قيلَ لِي: شيءٌ لما قمتُ حتى أَروي عشرةَ آلافِ حديثٍ في الصَّلَاةِ خَاصَّةً، وقالَ أَيضاً: قلتُ لَهُ: تحفظُ جميعَ ما أدخلتَ في مُصنفاتكَ؟ فَقَالَ: لا يَخفى عَلِيَّ جميعُ ما فِيها، وصنفتُ جميعَ كُتُبِي ثلاثَ مراتٍ، قَالَ: وبَلَغَنِي أنه شربَ البَلَاذِرَ فقلتُ له مَرَّةً في خلوةٍ هل من دواءٍ للحفظِ؟ فَقَالَ: لا أعلمُ، ثم أقبلَ عَلِيَّ فَقَالَ: لا أعلمُ شَيئاً أنفعَ للحفظِ من نَهْمَةِ الرَّجُلِ، ومُدَاوَمَةِ النَّظَرِ، وقالَ: أقمتُ بالمدينةِ بعد أن حججتُ سنةً جَرْدَاً أكتبُ الحديثَ، قَالَ: وأقمتُ بالبصرةِ خمسَ سنينَ مَعي كُتُبِي أصنفُ، وأَحُجُّ، وأرجعُ من مَكَّةَ إلى البصرةِ، قَالَ: وأنا أرجُو أن يباركَ اللهُ تعالى للمُسْلِمينِ في هذه الْمُصَنَّفَاتِ، وقالَ البُخَارِيُّ: تذكرتُ يَوماً أَصْحَابَ أَنَسٍ فحضَرَنِي في ساعةٍ ثلاثمائةِ نَفْسٍ، وَمَا قدمتُ على شيخٍ إِلَّا كانَ انتفاعُهُ بِي أكثرَ من انتفاعِي بِهِ.
وقالَ وَرَّاقُهُ: عَمِلَ كِتَاباً في ((الهِبَةِ)) فيهِ نَحو خمسمائةِ حديثٍ، وقالَ: ليسَ في كِتَابِ وَكِيْعٍ في ((الهبةِ)) إِلَّا حديثَانِ مُسْنَدَانِ أو ثلاثة، وفي كِتَابِ ابْنِ المُبَارَكِ خمسةٌ أو نحوُهَا، وقالَ أيضاً: ما جلستُ للتحديثِ حتى عرفتُ الصَّحِيحَ من السقيمِ، وحتى نظرتُ في كتبِ أَهْلِ الرأيِّ، وَمَا تركتُ بالبصرةِ حَديثاً إِلَّا كتبتُهُ، قَالَ: وسمعتُهُ يقولُ: لا أعلمُ شَيئاً يحتاجُ إِليهِ إِلَّا وهو في الكِتَابِ والسنَّةِ، قَالَ: فقلتُ لهُ: يمكنُ مَعْرِفَةُ ذلكَ ! قَالَ: نَعم، وقالَ أَحْمَدُ بْنُ حَمْدُوْنَ الحافظُ: رأيتُ البُخَارِيَّ في جنازةٍ، ومُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهَلِيُّ يسألهُ عن الأسماءِ والعِلَلِ / والبُخَارِيّ يمرُّ فيه مثل السهم، كأنه يقرأ: {قُلْ هو اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1].
وقرأتُ على عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ نِعْمَةَ شَفَاهَاً عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ مُكاتَبَةً أنَ السَّلَفِيَّ أَخْبَرَهُمْ أَخْبَرَنَا أَبُوْ الفَتْحِ الْمَالِكِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُوْ يَعْلَى الْخَلِيْلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الحَافِظُ أَخْبَرَنِي أَبُوْ مُحَمَّدُ الْمَخْلَدِيُّ في كِتَابِهِ أَخْبَرَنَا أَبُوْ حَامِدٍ الأَعْمَشِيُّ الحافظُ قَالَ: كُنَّا يَوماً عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيِّ بنَيْسَابُوْرَ فجاءَ مُسْلِمُ [307/ب] بْنُ الْحَجَّاجِ فسألَهُ عن حديثِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «بَعَثَنَا رَسُوْلُ اللهِ صلعم في سَرِيَّةٍ وَمَعَنَا أَبُوْ عُبَيْدَةَ» الحديثُ بطولهِ، فَقالَ البُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، فذكرَ الحديثَ بتمامِهِ، قَالَ: فقرأَ عليهِ إنسانٌ حديثَ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُوْسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلعمصلعم قَالَ: «كَفَّارَةُ الْمَجْلِسِ إِذَا قَامَ العَبْدُ أَنْ يَقُوْلَ: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ» فَقالَ لهُ مُسْلِمٌ في الدُّنْيَا أحْسَنُ من هذا الحديثِ: ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُوْسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ تعرفُ بهذا الإسنادِ في الدُّنْيَا حُديثاً؟ فَقالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيْلَ: إِلَّا أنه مَعْلُوْلٌ، فَقالَ مُسْلِمٌ: لا إلهَ إِلَّا اللهُ، وارتعدَ، أَخْبِرْنِي بِهِ، فَقال: «اسْتُرْ مَا سَتَرَ اللهُ»، هذا حديثٌ جليلٌ رَوَاهُ النَّاسُ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، فألحَّ عليهِ وقبَّلَ رأسَهُ، وكادَ أَنْ يَبْكِي، فَقَالَ: اكتبْ إن كانَ ولَا بُدَّ: حَدَّثَنَا مُوْسَى بْنُ إِسْمَاعِيْلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا مُوْسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قالَ رَسُوْلُ اللهِ صلعم: «كَفَّارَةُ الْمَجْلِسِ». فَقالَ لهُ مُسْلِمٌ: لا يُبْغِضُكَ إِلَّا حَاسِدٌ، وأشهدُ أنه ليسَ في الدُّنْيَا مثلُكَ.
وهكذا رَوَى الْحَاكِمُ هذهِ القصةِ في ((تاريخِ نَيْسَابُورِ)) عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَخْلَدِيِّ، ورواهَا الْبَيْهَقِيُّ في ((المدخلِ)) عَنْ الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللهِ على سياقٍ آخرَ قَالَ: سمعتُ أَبَا نَصْرٍ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الوَرَّاقُ يقولُ: سمعتُ أَحْمَدَ بْنَ حَمْدُوْنٍ القَصَّارُ، وهو أَبُوْ حَامِدٍ الأَعْمَشِيُّ يقولُ: سمعتُ مُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ، وجاءَ إلى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيْلَ فقبَّلَ بينَ عينيهِ، وقالَ: دَعْنِي حتى أقبِّلَ رجليكَ يا أستاذَ الأُسْتَاذِيْنَ، وسيدَ المحدثينَ، وطبيبَ الحديثِ في عِلَلِهِ، حَدَّثَكَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيْدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي مُوْسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلعم في كَفَّارَةُ الْمَجْلِسِ فَقالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيْلَ: وحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِيْنٍ قَالا: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُوْسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلعم قَالَ: «كَفَّارَةُ الْمَجْلِسِ أَنْ يَقُوْلَ إِذَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ: سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ» [308/أ] فَقالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيْلَ: هذا حديثٌ مليحٌ ولا أعلمُ بهذا الإسنادِ في الدُّنْيَا حَديثاً غيرَ هَذَا إِلَّا أنهُ معلولٌ، حَدَّثَنَا بِهِ مُوْسَى بْنُ إِسْمَاعِيْلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا سُهَيْلٌ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قولُهُ، قالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيْلَ: هَذَا أَوْلَى، ولا يَذْكُرُ لِمُوْسَى بْنِ عُقْبَةَ مُسْنَدَاً عَنْ سُهَيْلٍ.
ورواها الْحَاكِمُ في ((علومِ الحديثِ)) له بهذا الإسنادِ أخصرَ من هذا السياقِ، وقالَ في آخرِهَا كلامَاً مَوْهُوْمَاً، فإنهُ قالَ فيهِ: إِنَّ البُخَارِيَّ قَالَ: لا أعلمُ في البابِ غيرَ هذا الحديثُ الْوَاحِدُ، ولم يقلْ البُخَارِيُّ ذلكَ، وإنما قالَ ما تَقَدَّمَ، ولا يتصورُ وقوعُ هذا من البُخَارِيِّ مع معرفتهِ بِمَا في البابِ من الأَحَادِيْثِ، واللهُ سبحانهُ وتَعالى أعلمُ بالصَّوَابِ. /