هدى الساري لمقدمة فتح الباري

ثناء أقرانه وطائفة من أتباعه عليه

          ذِكْرٌ طرفٍ من ثناءِ أقرانهِ وطائفةٍ مِنْ أتباعِهِ عليهِ تَنبيهاً بالبعضِ على الكُلِّ
          قالَ أَبُوْ حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: لم تُخْرِجْ خراسانُ قَطُّ أحفظَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيْلَ، ولا قَدِمَ مِنْهَا إلى العراقِ أعلمَ منهُ. وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ حُرِيْثٍ: سألتُ أبا زُرْعَةَ عَنْ ابْنِ لَهِيْعَةَ فَقالَ لِي: تركَهُ أَبُوْ عَبْدِ اللهِ يَعْنِي البُخَارِيُّ.
          وقالَ الحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ المعروفُ بالعِجْلِ(1) : ما رأيتُ مِثلَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيْلَ، ومُسْلِمٌ حَافِظٌ، ولكنه لم يبلغْ مبلغَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيْلَ. قالَ العِجْلُ: ورأيتُ أَبَا زُرْعَةَ وأَبَا حَاتِمٍ يستمعانِ إليهِ، وكانَ أُمَّةً من الأُمَمِ دَيِّنَاً فاضلاً يُحْسِنُ كُلَّ شيءٍ، وكانَ أعلمَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهَلِيِّ بِكَذَا وكذا، وقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ: قد رأيتُ العلماءَ بالحرمينِ، والحِجَازِ، والشامِ، والعراقِ، فما رأيتُ فيهم أجمعُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيْلَ، وقالَ أيضاً: هو أَعْلَمُنَا، وأَفْقَهُنَا، وأكثرُنَا طَلَبَاً. وسُئِلَ الدَّارِمِيُّ عَنْ حديثٍ، وقيلَ لَهُ: إِنَّ البُخَارِيَّ صحَّحهُ فَقالَ: مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيْلَ أبصرُ مِنِّي، وهو أكيسُ خلقِ اللهِ، عَقَلَ عَنْ اللهِ ما أمرَ بِهِ ونَهَى عنهُ في كِتَابِهِ، وعلى لسانِ نَبِيِّهِ، إذا قرأَ مُحَمَّدُ القرآنَ اشتغلَ قلبهُ، وبصرهُ، وسمعهُ، وتفكَّرَ في أمثالِهِ، وعَرِفَ حَلالَهُ / مِنْ حَرَامِهِ.
          وقالَ أَبُوْ الطَّيِّبِ حَاتِمُ بْنُ مَنْصُوْرٍ: كانَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيْلَ آيةً من آيَاتِ اللهِ في بصرِهِ ونفاذِهِ في العلمِ، وقالَ أَبُوْ سَهْلٍ مَحْمُوْدُ بْنُ النَّضْرِ الفقيهُ: دخلتُ البصرةَ، والشَّامَ، والحِجَازَ، والكوفَةَ، ورأيتُ عُلَمَاءَهَا، فكلمَا جَرَى ذكرُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيْلَ فَضَّلوهُ على أَنْفُسِهِمْ، وقالَ أَبُوْ سَهْلٍ أَيضاً: سمعتُ أكثرَ من ثلاثينَ عَالماً من علماءِ مِصرَ يقولونَ: حَاجَتُنَا في الدُّنْيَا النَّظَرُ إلى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيْلَ، وقالَ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ جَزَرَةٌ: ما رأيتُ خُرَاسَانِيَّاً أفهمَ من مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيْلَ، وقالَ أيضاً: كانَ أَحفظهم للحديثِ، قَالَ: وكنتُ أَسْتَمْلِي له ببغدادَ فبلغَ مَن حضرَ المجلسَ عشرينَ أَلفاً، وسُئِلَ الحَافِظُ أَبُوْ العَبَّاسِ الفَضْلُ بْنُ العَبَّاسِ المعروفُ بِفَضْلِكَ الرَّازِيُّ: أيُّما أحفظُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيْلَ، أو أَبُوْ زُرْعَةَ؟ فَقَالَ: لم أكنْ التقيتُ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيْلَ فاستقبلنِي ما بينَ حلوانَ وبغدادَ، قَالَ: فرجعتُ معهُ مرحلةً وجهدتُ كُلَّ الجهدِ على أن أَجِيَء بحديثٍ لا يعرفُهُ فَمَا أَمكنني، وهو ذا أنا أغربُ على أَبِي زُرْعَةَ عددَ شعرِ رأسِهِ، وقالَ [305/أ] مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّغُوْلِيُّ: كتبَ أهلُ بغدادَ إلى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيُّ كِتَاباً فيهِ:
الْمُسْلِمُوْنَ بِخَيْرٍ ما بَقِيْتَ لَهُمْ                     وَلَيْسَ بَعْدَكَ خَيْرٌ حِيْنَ تُفْتَقَدِ
          وقالَ إِمَامُ الأئمَّةِ أَبُوْ بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ: ما تحتَ أديمِ السَّمَاءِ أعلمُ بالحديثِ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيْلَ. وقال أَبُوْ عِيْسَى التِّرْمذِيُّ: لم أرَ أعلمَ بالعللِ والأسانيدِ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيْلَ.
          وقال له مُسْلِمٌ: أشهدُ أنه ليسَ في الدُّنْيَا مثلكَ، وقالَ أَحْمَدُ بْنُ سَيَّارٍ في ((تاريخِ مَرٍو)): مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيُّ طلبَ العلمَ، وجالسَ النَّاسَ، ورَحَلَ في الحديثِ، ومَهَرَ فيهِ، وأبصرَ، وكانَ حَسَنَ المَعْرِفَةِ حَسَنَ الْحِفْظِ، وكانَ يَتَفَقَّهُ.
          وقالَ أَبُوْ أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ: كانَ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ إذا ذكرَ البُخَارِيَّ قَالَ: ذاكَ الكَبْشُ النَّطَّاحُ. وقالَ أَبُوْ عَمْرٍو الخَفَّافُ: حَدَّثَنَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ العالمُ الذي لم أرَ مثلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيْلَ، قَالَ: وهو أعلمُ بالحديثِ مِنْ أَحْمَدَ وإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمَا بعشرينِ دَرَجَةً، ومَن قالَ فيهِ شيئاً فعليهِ مِنِّي ألفَ لعنةٍ، وقالَ أيضاً: لو دخلَ من هذا البابِ وأنا أحدِّثُ لملئتُ منهُ رُعْبَاً، وقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ حَمَّادٍ الآمِلِيُّ: لوددتُ أَنِّي كنتُ شعرَةً في جسدِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيْلَ، وقالَ [سُلَيْمُ](2) بْنُ مُجَاهِدٍ: ما رأيتُ مُنْذُ ستينَ سَنَةً أَحداً أفقهَ ولا أورعَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيْلَ.
          وقالَ مُوْسَى بْنُ هَارُوْنَ الحَمَّالُ الحافظُ البَغْدَادِيُّ: عِندي لو أنَّ أهلَ الإسلامِ اجْتمعوا على أن يَنصبوا آخرَ مثلَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيْلَ لما قَدَرُوْا عَلَيْهِ، وقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيْدِ بْنِ جَعْفَرٍ: سمعتُ العلماءَ بالبصرةِ يقولونَ: ما في الدُّنْيَا مثلُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيْلَ في المَعْرِفَةِ والصَّلاحِ، ثم قالَ عَبْدُ اللهِ: وأنا أقولُ قَوْلَهُمْ.
          وقالَ الحَافِظُ أَبُوْ العَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيْدِ بْنِ عُقْدَةَ: لو أنَّ رَجُلاً كتبَ ثلاثينَ ألفَ حديثٍ لما اسْتَغْنَى عن ((تاريخِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيْلَ)).
          وقالَ الْحَاكِمُ أَبُوْ أَحْمَدَ في ((الكُنَى)): كانَ أحدَ الأئمَّةِ في مَعْرِفَةِ الحديثِ وجَمْعِهِ، ولو قلتُ: إني لم أرَ تصنيفَ أحدٍ يشبهُ تصنيفَهُ في الحُسْنِ والمبالغَةِ لفعلْتُ.
          ولو / فتحتُ بابَ ثناءِ الأئمَّةِ عليهِ مِمَّنْ تأخَّرَ عَنْ عَصْرِهِ لَفَنِيَ القِرْطَاسُ ونفذَتْ الأنفاسُ، فذاكَ بحرٌ لا ساحِلَ لَهُ، وإنما ذكرتُ كلامَ ابْنِ عُقْدَةَ وأَبِي أَحْمَدَ عُنْوَانَاً لذلكَ، وبعدَ مَا تقدَّمَ من ثناءِ كبارِ مَشَايِخِهِ عليهِ لا يحتاجُ إلى حكايةِ مَن تأخَّرَ؛ لأن أولئكَ إنما أَثْنُوْا بِمَا شَاهَدُوْا، ووصفُوْا ما عَلِمُوْا بخلافِ مَنْ بَعْدَهُمْ؛ فإن ثناءَهُمْ ووصفَهم مبنيٌّ على الاعتمادِ على ما نُقِلَ [305/ب] إِليهم، وبينَ المقامينِ فرقٌ ظَاهِرٌ، وليسَ العَيَانُ كالخبرِ.


[1] كذا في الأصول، وفي مصادر الترجمة: المعروف بعبيد العجل.
[2] في ت: سليمان.