إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة

          6614- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ) المدينيُّ قال: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) بن عُيينة (قَالَ: حَفِظْنَاهُ) أي: الحديث (مِنْ عَمْرٍو) بفتح العين، ابن دينار، وعند الحميديِّ في «مسنده» عن سفيان: حَدَّثنا عمرو بن دينار (عَنْ طَاوُسٍ) هو ابنُ كيسان، الإمام أبو عبد الرَّحمن، أنَّه قال: (سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ) ☺ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه (قَالَ: احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى) صلَّى الله عليهما وسلَّم، أي: تحاجَّا وتناظرا. وفي رواية همَّام عند مسلمٍ: «تحاجَّ» كما في التَّرجمة وهي أوضحُ (فَقَالَ لَهُ) أي: لآدم (مُوسَى: يَا آدَمُ؛ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا) أي: أوقعتنَا في الخيبةِ، وهي الحرمان (وَأَخْرَجْتَنَا) أي: كنت سببًا لإخراجنَا(1) (مِنَ الجَنَّةِ) دار النَّعيم والخلود إلى دار البؤسِ والفناء، والجملة مبيّنة للسَّابقة ومفسِّرة لِمَا أُجمل (قَالَ لَهُ) لموسى (آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللهُ بِكَلَامِهِ) / أي: جعلَكَ خالصًا(2) عن شائبةِ ما لا يليقُ بك، وقوله: «بِكَلَامِهِ» فيه تلميحٌ إلى قولهِ: {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}[النساء:164] وقولهِ: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا}[البقرة:253] الآيةَ (وَخَطَّ لَكَ) ألواح التَّوراة (بِيَدِهِ) بقدرته (أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَ اللهُ عَلَيَّ) بتشديد الياء، وحذف ضمير المفعول، ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ: ”قدَّره الله عليَّ“ (قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً) أي: ما بين قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}[البقرة:30] إلى نفخِ الرُّوح فيه، أو هي مدَّة لُبثه طينًا‼ إلى أن نفختْ فيه الرُّوح، ففي مسلمٍ: أنَّ بين تصويرهِ طينًا ونفخِ الرُّوح فيه كان أربعين سنةً، أو المراد: إظهارهُ للملائكةِ، وفي رواية أبي صالح السَّمان عند التِّرمذيِّ وابنِ خُزيمة من طريق الأعمش: «فتلومُني على شيءٍ كتبهُ الله عليَّ قبل خلقِي». وفي حديثِ أبي سعيدٍ عند البزَّار: «أتلومني على أمرٍ قدَّره الله تعالى عليَّ قبلَ أن يخلقَ السَّموات والأرضَ»، وجُمعَ بحملِ المقيَّدة(3) بالأربعين على ما يتعلَّق بالكتابةِ، والأخرى(4) على ما يتعلَّق بالعلمِ (فَحَجَّ آدَمُ) بالرَّفع على الفاعليَّة (مُوسَى) في موضع(5) نصب مفعولًا (فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى) قالها (ثَلَاثًا) والملفوظُ به هنا ثنتان، أي: غلبه بالحجَّة بأن ألزمَه أنَّ ما صدرَ عنه لم يكنْ هو مستقلًّا به متمكِّنًا من تركهِ، بل كان قدرًا من الله تعالى لا بدَّ من إمضائهِ، والجملةُ مقرِّرة لِمَا سبقَ، وتأكيدٌ له وتثبيتٌ للأنفس على توطين هذا الاعتقاد، أي: أنَّ الله أثبتَه في أمِّ الكتاب قبلَ كوني، وحَكَمَ بأنَّه كائنٌ لا محالةَ، فكيف تغفلُ عن العلم السَّابق، وتذكرُ الكسبَ الَّذي هو السَّبب، وتَنسى الأصل الَّذي هو القدر، وأنت من المصطَفينَ الأخيار الَّذين يشاهدون سرَّ الله تعالى من وراءِ الأستارِ، وهذه المحاجَّة لم تكن في عالمِ الأسباب الَّذي لا يجوزُ فيه قطعُ النَّظر عن الوسائطِ والاكتساب، وإنَّما كانت في العالمِ العلويِّ عند مُلتقى الأرواحِ، واللَّوم إنَّما يتوجَّه على المكلَّف ما دامَ في دارِ التَّكليف، أمَّا بعدَها فأمرُه إلى الله تعالى لاسيَّما وقد وقع ذلك بعد أنْ تابَ الله عليه، فلذا عدل إلى(6) الاحتجاجِ بالقدرِ السَّابق، فالتَّائب لا يُلام على ما تيبَ عليه منه، ولاسيَّما إذا انتقلَ عن دار التَّكليف.
          واختلفَ في وقت هذه المحاجَّة، فقيل: يحتمل أنَّه في زمان مُوسى فأحيا الله له آدمَ معجزةً له فكلَّمه، أو كشفَ له عن قبرهِ فتحدَّثا(7)، أو أراهُ الله روحَه كما أُري النَّبيُّ صلعم ليلةَ المعراج أرواحَ الأنبياء، أو أراهُ الله له في المنامِ ورؤيا الأنبياءِ وحيٌ، أو كان ذلك بعدَ وفاةِ موسى فالتقيا في البرزخِ أوَّل ما ماتَ موسى فالتقتْ أرواحهمَا في السَّماء، وبذلك جزمَ ابنُ عبد البرِّ والقابسيُّ(8)، أو أنَّ ذلك لم يقعْ بَعْدُ وإنَّما يقعُ في الآخرة، والتَّعبير عنه في الحديثِ بلفظ الماضي؛ لتحقُّق وقوعهِ.
          والحديث أخرجه مسلمٌ في «القدر» أيضًا، وأبو داود في «السُّنَّة»، والنَّسائيُّ في «التَّفسير»، وابن ماجه في «السُّنَّة» أيضًا.
          (قَالَ سُفْيَانُ) بن عُيينة، ولأبي الوقت: ”وقال سفيان“ بواو العطف على قولهِ: «حفظناه من عَمرو» فهو موصولٌ (حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ) عبدُ الله بن ذَكوان (عَنِ الأَعْرَجِ) عبد الرَّحمن بن هُرمز (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) ☺ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ، مِثْلَهُ) أي: مثل الحديث السَّابق‼.


[1] في (ص): «في إخراجنا».
[2] في (د) زيادة: «صافيًا».
[3] في (س): «المقيد».
[4] في (س) و(ص): «والآخر».
[5] «في موضع»: ليست في (س).
[6] في (ع): «عول على».
[7] في (د): «فتحدث».
[8] في (د): «والسفاقسي». والمثبت موافق للفتح والعمدة.