إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارًا

          6483- وبه قال: (حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ) الحكمُ بن نافع قال: (أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ) هو ابنُ أبي حَمزة قال: (حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بنُ ذكوان (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن هرمز الأعرج (أَنَّهُ حَدَّثَهُ) حدَّث أبا الزِّناد (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ ☺ : أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ: إِنَّمَا مَثَلِي، وَمَثَلُ النَّاسِ) المرادُ بضربِ المثل زيادةُ الكشفِ والتَّبيين، ولضَرْبِ الأمثال في إبراز خفيَّات المعاني ورفعِ الأستار عن الحقائقِ تأثيرٌ ظاهرٌ، واستُعير المَثَلُ للحال، أو الصِّفة، أو القصَّة إذا كان لها شأنٌ، وفيها غرابةٌ كأنَّه قيل: حال النَّاس العجيبة الشَّأن في دعائي إيَّاهم إلى الإسلام المُنقذ لهم من النَّار، ومثل ما زَيَّنتْ لهم أنفسهم من التَّمادي على الباطلِ (كَمَثَلِ رَجُلٍ) كحالِ رجلٍ (اسْتَوْقَدَ) أوقدَ (نَارًا) المَثَلُ في الثَّلاث بفتح الميم والمثلَّثة، ووقودُ النَّار سطوعُها وهو جوهرٌ لطيفٌ مضيءٌ حارٌّ محرقٌ، واشتقاقها من نارَ ينور إذا نفر؛ لأنَّ فيها حركةً واضطرابًا (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ) الإضاءةُ فرطُ الإنارةِ، ومصداقُه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا}[يونس:5] و«أضاءت» متعدِّية فـ «ما» موصولة مفعولٌ به، أي: أضاءت النَّار ما حولَ المستوقد، ويجوزُ أن تكون غير متعدِّيةٍ، فيُسند الفعل إلى «ما» على تأويل أضاءتِ الأماكن الَّتي حولَ المستوقد، أو يُسْنَدُ إلى ضمير النَّار، فعلى هذا ينتصبُ ما حوله على الظَّرفيَّة، أي: أضاءت النَّار في الأمكنةِ الَّتي حولَ المستوقد(1)، وإنَّما أضاء إشراق النَّار فيما حولها(2) لا هي نفسها، لكن يجعل إشراق ضوء النَّار بمنزلةِ إشراق النَّار في نفسِها؛ لأنَّ ضوء النَّار لمَّا كان محيطًا بالمستوقد مشرقًا(3) فيما حوله غاية الإشراق، أسند الفعل إلى النَّار نفسها إسنادًا للفعلِ إلى الأصلِ، كقولهم: بنى الأميرُ المدينة، قاله في «فتوح الغيب»، وجوابُ «فلمَّا» قوله: (جَعَلَ الفَرَاشُ) بفتح الفاء والراء المخففة وبعد الألف معجمة، دوابّ مثل البعوضِ في الأصل(4)، واحدتها‼: فراشةٌ، وهي الَّتي تطيرُ وتتهافتُ في السِّراج بسبب ضعفِ أبصارها، فهي بسببِ ذلك تطلبُ ضوء النَّهار، فإذا رأت السِّراج باللَّيل ظنَّتْ أنَّها في بيتٍ مظلمٍ وأنَّ السِّراج كوَّةٌ في البيتِ المظلم إلى الموضعِ المضيء، ولا تزالُ تطلبُ الضَّوء وترمِي بنفسِها إلى الكوَّة، فإذا جاوزتها ورأتِ الظَّلام ظنَّت أنَّها لم تصبِ الكوَّة ولم تقصدها على السَّداد، فتعودُ إليها(5) حتَّى تحترق (وَهَذِهِ الدَّوَابُّ) جمع دابَّة (الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ) كالبرغشِ والبعوضِ والجندب ونحوها (يَقَعْنَ فِيهَا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ) ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ: ”وجعل“ «بالواو» بدل: «الفاء»(6)، (يَنْزِعُهُنَّ) بنون قبل الزاي، وفي رواية: ”يزعهنَّ“ بإسقاط النون، من وَزَعه يزعَه وزْعًا فهو وازعٌ إذا كفَّه ومنعَه (وَيَغْلِبْنَهُ) بسكون الغين المعجمة والموحدة (فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا) يدخلن(7) في النَّار (فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ) بضم الخاء المعجمة، و«بحُجَزِكم» بضم الحاء المهملة وفتح الجيم بعدها زاي، جمع: حجزة، وهي معقدُ الإزار. قيل: صوابهُ: بحجزهم _بالهاء المهملة_؛ لأنَّ السَّابق: «إنَّما مثلِي ومثل النَّاس»؟ وأُجيب بأنَّه التفاتٌ من الغيبةِ إلى الخطابِ؛ اعتناءً بشأن الحاضرين في وقوعِ الموعظةِ من قلوبهِم أتمَّ موقع، ومثل ذلك من محاسنِ الكلام، فكيف يدَّعى أنَّ الصَّواب خلافه(8)، وفيه التفاتٌ من الغيبة في قوله: «ومثل النَّاس» / إلى الخطاب في قوله: «وأنا آخذٌ بحجزكم» (عَنِ) المعاصي الَّتي هي سببٌ للولوج(9) في (النَّارِ) فهو من وضع المُسبَّب موضع السَّبب (وَهُمْ) التفاتٌ من الخطابِ في قوله: «بحجزكم» إلى الغيبة، ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ: ”وأنتُمْ“ (يَقْتَحِمُونَ) يدخلون(10) (فِيهَا).
          قال في «شرح المشكاة»: تحقيقُ التَّشبيه الواقع في هذا الحديث يتوقَّف على معرفة معنى قوله: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[البقرة:229] وذلك أنَّ حدودَ الله هي محارمهُ ونواهيهِ، كما في «الصَّحيح» [خ¦52] «ألا إنَّ حمى الله محارمهُ» ورأسُ المحارم حبُّ الدُّنيا وزينتها، واستيفاء لذَّتها(11) وشهواتها، فشبَّه صلعم إظهار تلك الحدود من الكتاب والسُّنَّة باستنقاذ الرِّجال من النَّار، وشبَّه فشوَّ ذلك في مشارقِ الأرضِ ومغاربها بإضاءةِ تلك النَّار ما حول المستوقد، وشبَّه النَّاس وعدمَ مبالاتهم بذلك البيان وتعدِّيهم حدودَ الله وحرصَهم على استيفاءِ تلك اللَّذات والشَّهوات، ومنعَه إيَّاهم عن ذلك بأخذِ حجزهِم بالفراشِ الَّتي يقتحمْنَ في النَّار ويغلبنَ المُستوقدَ على دفعهنَّ عن الاقتحامِ، كما أنَّ المستوقد كان غرضهُ من فعلهِ(12) انتفاعَ الخلقِ به من الاستضاءةِ والاستدفاءِ وغير ذلك، والفَرَاش لجهلهَا جعلته سببًا لهلاكها، فكذلك كان القصدُ بتلك البيانات اهتداءَ الأمَّة واجتنابَها ما هو سببُ هلاكهم، وهم مع ذلك لجهلِهم جعلوها مقتضيةً لتردِّيهم، وفي قوله: «آخذٌ بحجزكم»(13) استعارة مثل حالة منعهِ الأمَّة عن الهلاكِ بحالة رجلٍ أخذَ بِحُجْزَةِ صاحبهِ الَّذي كاد أن يَهوي في مهواة مهلكةٍ. انتهى.
          وهذا الحديثُ سبق في «باب قول(14) الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ}[ص:30]» مختصرًا [خ¦3426].


[1] قوله: «أو يسند إلى ضمير النَّار... حول المستوقد»: ليس في (ص).
[2] في (س): «في حوله».
[3] قوله: «في حولها لا هي نفسها... بالمستوقد مشرقًا»: ليس في (ع).
[4] «في الأصل»: ليست في (ع).
[5] قوله: «بسبب ضعف أبصارها... فتعود إليها»: ليس في (ع) و(ص).
[6] «بالواو بدل: الفاء»: ليست في (د).
[7] في (ب) و(س): «فيدخلن».
[8] قوله: «قيل: صوابه بحجزهم بالهاء المهملة... أن الصَّواب خلافه»: ليس في (ع).
[9] في (د): «سبب الولوج».
[10] في (ع) و(ص): «تدخلون»، وفي (د): «تقتحمون تدخلون».
[11] في (ص): «لذاتها».
[12] «من فعله»: ليست في (ص).
[13] في (ع) و(د): «بحجزهم».
[14] في (ص): «في قوله».