إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم والمأثم والمغرم

          6368- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ) بضم الميم وفتح العين واللام المشددة قال: (حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ) بضم الواو وفتح الهاء، ابن خالدٍ البصريُّ (عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ ♦ : أَنَّ النَّبِيَّ صلعم كَانَ يَقُولُ) تعليمًا لأمَّته أو عبوديَّةً منه: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الكَسَلِ) وهو الفتورُ عن الشَّيء مع القدرة على عمله إيثارًا لراحةِ البدن على(1) التَّعب (وَ) من (الهَرَمِ) وهو الزِّيادة في كِبَر السِّنِّ المؤدِّي(2) إلى ضعف الأعضاء (وَالمَأْثَمِ) ما يوجب الإثم (وَالمَغْرَمِ) أي: الدَّين فيما لا يجوز (وَمِنْ فِتْنَةِ القَبْرِ) سؤالِ منكر ونكير (وَعَذَابِ القَبْرِ) وهو ما يترتَّب بعد فتنتهِ على المجرمين، فالأوَّل كالمقدِّمة / للثَّاني وعلامةٌ عليه (وَمِنْ فِتْنَةِ النَّارِ) هي سؤال الخَزَنة على سبيل التَّوبيخ، وإليه الإشارةُ بقوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ}[الملك:8] (وَعَذَابِ النَّارِ) بعد فتنتها (وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الغِنَى) كالبطرِ والطُّغيان وعدم تأدية الزَّكاة (وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الفَقْرِ) كأن يحمله الفقر على اكتسابِ الحرام، أو التَّلفُّظ بكلماتٍ مؤدِّيةٍ إلى الكفر.
          قال في «الكواكب»: فإن قلت: لم زادَ لفظ الشَّرِّ في الغنى، ولم يذكره في الفقر ونحوه؟ وأجاب: بأنَّه تصريحٌ بما فيه من الشَّرِّ وأنَّ مضرَّته أكثر من مضرَّة غيره، أو تغليظًا على الأغنياء حتَّى لا يغترُّوا بغناهُم، ولا يغفلوا عن مفاسدهِ، أو إيماءً إلى أنَّ صورة أخواته لا خيرَ فيها، بخلاف صورته فإنَّها قد تكون خيرًا. انتهى.
          وتعقَّبه في «الفتح»: بأنَّ هذا كلَّه غفلةٌ عن الواقع، فإنَّ الَّذي ظهرَ لي أنَّ لفظة شرٍّ في الأصل ثابتةٌ(3) في الموضعين، وإنَّما اختصرَه(4) بعض الرُّواة، فسيأتي بعد قليلٍ(5) في «باب الاستعاذةِ من أرذلِ العمر» [خ¦6375] من طريق وكيعٍ وأبي معاوية مفرَّقًا عن هشام بسنده هذا بلفظ: «وشرِّ فتنة الغنى، وشرِّ فتنةِ الفقرِ»(6) ويأتي بعد أبواب أيضًا [خ¦6376] _إن شاء الله تعالى(7)_ من رواية سلام بن أبي مطيعٍ، عن هشامٍ بإسقاط «شرٍّ» في الموضعين، والتَّقييد في الغنى والفقر بالشَّرِّ لا بدَّ منه؛ لأنَّ كلًّا منهما فيه خيرٌ باعتبارٍ، فالتَّقييدُ في الاستعاذة منه‼ بالشَّرِّ يُخرج ما فيه من الخير سواءٌ قلَّ أم كثُر. انتهى.
          وتعقَّبه العينيُّ، فقال: هذا غفلةٌ منه حيث يدَّعي اختصارَ بعض الرُّواة بغير دليلٍ على ذلك. قال: وأمَّا قوله: وسيأتي بعدُ لفظ: «شرِّ فتنة الغنى، وشرِّ فتنة الفقر» فلا يساعده فيما قاله؛ لأنَّ للكِرمانيِّ أن يقول: يُحتمل أن يكون لفظ: «شرِّ» في فتنة الفقر مدرجًا من بعض الرُّواة على أنَّه لم ينفِ مجيء لفظ شرٍّ في غير الغنى ولا يلزمه هذا؛ لأنَّه في بيان هذا الموضع الَّذي وقع هنا خاصّةً. انتهى.
          قال(8) الحافظ ابن حَجرٍ في «انتقاض الاعتراض»: حكاية هذا الكلام _أي: الَّذي قاله العينيُّ_ يُغني العارف عن التَّشاغل بالرَّدِّ عليه.
          (وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ) بفتح الميم وكسر السين آخره حاء مهملتين (الدَّجَّالِ) بتشديد الجيم، الأعور الكذَّاب، وهذه الفتنة وإن كانت من جملةِ فتنة المحيا لكن أُعيدت تأكيدًا لعظمتِها وكثرة شرِّها، أو لكونها(9) تقعُ في محيا أناسٍ مخصوصين وهم الَّذين في زمنِ خروجهِ، وفتنة المحيا عامَّة لكلِّ أحدٍ فتغايرا (اللَّهُمَّ اغْسِلْ عَنِّي خَطَايَايَ) جمع: خطيئةٍ (بِمَاءِ الثَّلْجِ) بالمثلَّثة (وَالبَرَدِ) بفتح الموحدة والراء، هو حَبُّ الغمام، وفي «باب ما يقول بعد التَّكبير» في أوائل «صفة الصَّلاة» [خ¦744] «بالماء والثَّلج والبرد» وقال التُّوربشتيُّ: ذكر أنواع المطهِّرات المنزَّلة من السَّماء الَّتي لا يمكن حصول الطَّهارة الكاملة إلَّا بأحدها(10) تبيانًا لأنواع المغفرة الَّتي لا تَخَلُّصَ من الذُّنوب إلَّا بها، أي: طهِّرني من الخطايا بأنواعِ مغفرتكَ الَّتي هي في تمحيصِ(11) الذُّنوب بمثابةِ هذه الأنواعِ الثَّلاثة في إزالةِ الأرجاسِ والأوصابِ ورفع الجنابةِ والأحداثِ. وقال الطِّيبيُّ: ويمكن أن يُقال: ذكر الثَّلج والبرد بعد ذكر الماء المطلوب منهما شمول أنواع الرَّحمة بعد المغفرةِ؛ لإطفاء حرارة عذاب النَّار الَّتي هي في(12) غايةِ الحرارة؛ لأنَّ عذاب النَّار يقابله الرَّحمة، فيكون التَّركيب من باب قوله:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .                       متقلِّدًا سيفًا ورُمحًا
أي: اغسل خطايايَ بالماء، أي: اغفرْها، وزدْ على الغفرانِ شمول الرَّحمة.
          (وَنَقِّ) بفتح النون وتشديد القاف (قَلْبِي مِنَ الخَطَايَا، كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ) أي: الوسخ، و«نقَّيت» بفتح المثناة الفوقية، وهو تأكيدٌ للسَّابق، ومجازٌ عن إزالة الذُّنوب، ومحو أَثَرها (وَبَاعِدْ) أَبْعِد(13) (بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ) أي: كتبعيدكَ (بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ) أي: حُلْ بيني وبينها حتَّى لا يبقى لها منِّي اقتراب بالكليَّة.
          وسبق الحديث في «صفة الصَّلاة» [خ¦744].


[1] في (ص) و(د): «عن».
[2] في (ب) و(س): «المؤدية».
[3] في (ع): «ثابت». والمثبت في المتن موافق للفتح.
[4] في (د): «اختصر».
[5] في (ص): «ذلك».
[6] في (ب): «القبر».
[7] «إن شاء الله تعالى»: ليست في (ع) و(د).
[8] في (ع) و(د): «وقال».
[9] في (ع): «كونها».
[10] في (ب) و(س): «بها».
[11] في (ع) و(د): «تمحص».
[12] «في»: ليست في (ع) و(د).
[13] في (ع) و(د): «بعد».