إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي

          6306- وبه قال: (حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ) عبد الله بن عَمرو بن أبي الحجَّاج التَّيميُّ‼ المقعد المِنْقَريُّ _بكسر الميم وسكون النون وفتح القاف_ قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ) بن سعيدٍ قال: (حَدَّثَنَا الحُسَيْنُ) بضمِّ الحاء، ابن ذكوان المعلِّم قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ(1) اللهِ بْنُ بُرَيْدَةَ) بضمِّ الموحدة، ابن الحُصَيب الأسلميُّ أبو سهل المروزيُّ قاضيها (عَنْ بُشَيْرِ بْنِ كَعْبٍ) بضمِّ الموحدة وفتح المعجمة (العَدَوِيِّ) ولأبي ذرٍّ: ”قال: حَدَّثني“ بالإفراد ”بشيرُ بن كعبٍ العدويُّ“ (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد (شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ) الأنصاريُّ ( ☺ ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه قال: (سَيِّدُ الاِسْتِغْفَارِ) ترجم البخاريُّ بالأفضليَّة، والحديث بلفظ السِّيادة فكأنَّه _كما في «الفتح»_ أشار إلى أنَّ المراد بالسِّيادة الأفضليَّة، والسَّيِّدُ هنا مُستعارٌ من الرَّئيس المقدَّم الَّذي يُعتمد عليه في الحوائجِ، ويرجع إليه في الأمور، كهذا(2) الدُّعاء الَّذي هو جامعٌ لمعاني التَّوبة كلِّها (أَنْ تَقُولَ) بصيغة المخاطب في الفرع، وقال في «الفتح»: ”أن يقول(3) العبد“ وثبت(4) في رواية أحمد والنَّسائيِّ: «إنَّ سيِّد الاستغفارِ أن يقول العبدُ»: (اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي) كذا في الفرع وأصله «أنتَ» مرَّةً واحدةً. وقال الحافظ ابن حجرٍ: ”أنت، أنت“ بالتَّكرير مرَّتين، وسقطت الثَّانية من معظم(5) الرِّوايات (وَأَنَا عَبْدُكَ) قال في «شرح المشكاة»: يجوز أن يكون(6) حالًا مُؤكِّدة، وأن يكون مُقدَّرة، أي: أنا عابدٌ لك، كقولهِ تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ}[الصافات:112] وينصُرُه عطف قوله(7): (وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ) أي: ما عاهدتك عليه، وواعدْتُ من الإيمانِ بك وإخلاص الطَّاعة لك (مَا اسْتَطَعْتُ) من ذلك، وفيه الإشارةُ إلى أنَّ(8) الاعترافَ بالعجزِ والقصور عن(9) كُنْهِ الواجبِ من حقِّه تعالى، وقد يكون المراد _كما قاله ابن بطَّال_ بالعهد: العهد الَّذي أخذهُ الله على عبادهِ، حيث أخرجهم أمثال الذَّرِّ وأشهدَهم على أنفسهم {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ}[الأعراف:172] فأقرُّوا له بالرُّبوبيَّة وأذعنُوا له بالوحدانيَّة، وبالوعدِ ما قال على لسانِ نبيِّه صلعم : «إنَّ مَن ماتَ لا يشرِكُ باللهِ شيئًا، وأدَّى مَا افتُرِضَ عليهِ أن يُدخلهُ(10) الجنَّة» (أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ) بضم الموحدة وسكون الواو بعدها همزة ممدودًا، أعترفُ (لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي) أعترفُ به، أو أحملهُ برَغْمِي(11) فلا أستطيعُ صرفَه عنِّي، ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ: ”وأبوءُ لك بذَنبي“ (اغْفِرْ لِي) ولأبي ذرٍّ / : ”فاغفرْ لي“ بزيادة فاء (فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ) قال في «شرح المشكاة»: اعْتَرفَ أوَّلًا بأنَّه أنعم عليه ولم يقيِّده ليشمل كلَّ إنعامٍ(12)، ثمَّ اعترفَ بالتَّقصير وأنَّه لم يقمْ بأداءِ شكرهَا، وعدَّه ذنبًا مبالغةً في التَّقصير وهضمِ النَّفس. انتهى.
          قال في «الفتح»: ويُحتمل أن‼ يكون قوله: «وأبوء لك بذنبي» اعترافًا(13) بوقوع الذَّنب مطلقًا ليصحَّ الاستغفار منه، لا أنَّه(14) عدَّ ما قصَّر فيه من أداء النِّعم ذنبًا.
          (قَالَ) صلعم : (وَمَنْ قَالَهَا) أي: الكلمات (مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا) مخلصًا (بِهَا) من قلبهِ مصدِّقًا بثوابها (فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ) الدَّاخلين لها ابتداءً من غير دخولِ النَّار؛ لأنَّ الغالبَ أنَّ المؤمن بحقيَّتها المؤمنَ بمضمونها لا يعصِي الله تعالى، أو أنَّ الله يعفو عنه ببركةِ هذا الاستغفار، قاله في «الكواكب» (وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهْوَ مُوقِنٌ) مخلصٌ (بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهْوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ) ويحتمل أن يكون هذا فيمن(15) قالها وماتَ قبل أن يفعلَ ما يغفر له به ذنوبه.
          وقال في «بهجة النُّفوس»: من شروط الاستغفار صحَّةُ النِّيَّةِ والتَّوجُّه والأدب، فلو أنَّ أحدًا حصَّل الشُّروط واستغفرَ بغير هذا اللَّفظ الواردِ، واستغفر(16) آخر بهذا اللَّفظ الوارد(17)، لكن أخلَّ بالشُّروط هل يتساويان؟ والَّذي يظهر أنَّ اللَّفظ المذكور إنَّما يكون سيِّد الاستغفار إذا جمعَ الشُّروط المذكورة. قال: وقد جمعَ هذا الحديث من بديعِ المعاني وحُسن الألفاظِ ما يحقُّ له أن يسمَّى سيِّد الاستغفارِ، ففيه الإقرارُ لله وحدَهُ بالإلهيَّة والعبوديَّة والاعتراف بأنَّه الخالقُ، والإقرارُ بالعهد الَّذي أخذَهُ عليه، والرَّجاء بما وعدَه به، والاستعاذةُ من شرِّ ما جَنى العبدُ على نفسه، وإضافةُ النَّعماء إلى مُوجدها، وإضافةُ الذَّنب إلى نفسهِ ورغبتهُ في المغفرةِ(18)، واعترافُه بأنَّه لا يقدر أحدٌ على ذلك إلَّا هو، وفي ذلك الإشارة إلى الجمع بين الشَّريعة والحقيقة(19)، وأنَّ تكاليف الشَّريعة لا تحصلُ إلَّا إذا كان في ذلك عون من الله تعالى. انتهى.
          وقال في «الكواكب»: لا شكَّ أنَّ في الحديثِ ذكر الله تعالى بأكملِ الأوصاف، وذكر العبد نفسَه بأنقص الحالاتِ، وهي أقصى غاية التَّضرُّع ونهاية الاستكانة لمن لا يستحقُّها إلَّا هو، أمَّا الأوَّل فلما فيه من الاعترافِ بوجود الصَّانع وتوحيدِه الَّذي هو أصل الصِّفات العدميَّة(20) المسمَّاة بصفات الجلالِ، والاعتراف بالصِّفات السَّبعةِ الوجوديَّة المسمَّاة بصفاتِ الإكرام، وهي القدرةُ اللَّازمة من الخلق الملزومةُ للإرادةِ والعلم والحياة، والخامسة الكلام اللَّازم من الوعد والسَّمع والبصر اللَّازمان من المغفرة؛ إذ المغفرة للمسموع والمبصَر لا يُتَصوَّر إلَّا بعد السَّماع والإبصار، وأمَّا الثَّاني فلِمَا فيه أيضًا من الاعترافِ بالعبوديَّة وبالذُّنوب في مقابلةِ النِّعمة الَّتي تقتضِي نقيضَها وهو الشُّكر. انتهى.
          والحديثُ أخرجه النَّسائيُّ في «الاستعاذةِ»، وفي اليوم واللَّيلة.


[1] في (د): «عبيد».
[2] في (د): «هذا».
[3] في (ص) زيادة: «أي».
[4] في (ع): «ثبتت».
[5] في (ع) و(د): «بعض».
[6] في (ب) و(س): «تكون».
[7] في (د): «عطف على قوله».
[8] في (س): «فيه إشارة إلى».
[9] في (ع): «من».
[10] في (ص): «يدخل».
[11] في (ع): «بذنبي»، «برغمي»: ليست في (د).
[12] في (ب) و(س): «النعم»، وفي (د): «الإنعام».
[13] في (د): «اعتراف».
[14] في (ب): «لأنه».
[15] في (د): «ممن».
[16] قوله: «بغير هذا اللفظ الوارد واستغفر»: ليس في (ص) و(ع).
[17] «واستغفر آخر بهذا اللفظ الوارد»: ليست في (د).
[18] في (ع) و(د): «بالمغفرة».
[19] «والحقيقة»: ليست في (ع).
[20] في (ع) و(د): «القدسية» والمثبت موافق للكواكب.