إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعًا

          6227- وبه قال: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ) البيكنديُّ قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همَّام بن نافعٍ الحافظ الصَّنعانيُّ (عَنْ مَعْمَرٍ) هو ابنُ راشدٍ البصريِّ (عَنْ هَمَّامٍ) بفتح الهاء وتشديد الميم (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) ☺ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه (قَالَ: خَلَقَ اللهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ) الضَّمير عائدٌ على آدم، أي: خلقه تامًّا مستويًا (طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا) لم يتغيَّر عن حالهِ، ولا كان من نطفةٍ، ثمَّ من(1) علقةٍ، ثمَّ من مضغةٍ، ثمَّ جنينًا، ثمَّ طفلًا، ثمَّ رجلًا حتَّى تمَّ طوله، فلم يتنقلْ من الأطوارِ كذرِّيَّته، وفيه _كما قال ابن بطَّالٍ_ إبطالُ(2) قول الدَّهريَّة: إِنَّه لم يكن قطُّ إنسان إلَّا من نطفةٍ، ولا نطفة إلَّا من إنسانٍ، وقيل: إنَّ لهذا الحديث سببًا حُذِف من هذه الرِّواية، وإنَّ أوَّله قصَّة الَّذي ضرب عبده فنهاهُ النَّبيُّ صلعم عن ذلك، وقال له: «إنَّ اللهَ خلقَ آدمَ علَى صورتِهِ» رواه [أبو داود](3). وللبخاريِّ(4) في «الأدب المفرد» وأحمد من طريق ابنِ عجلان، عن سعيدٍ، عن أبي هُريرة مرفوعًا: «لَا تقُولنَّ قبَّحَ اللهُ وجهَكَ ووجهَ مَن أشبَهَ وجهَكَ، فإنَّ اللهَ خلقَ آدمَ علَى صورتِهِ» وهو ظاهرٌ في عود الضَّمير على المقولِ له ذلك، وقيل: الضَّمير «لله» لِما في بعض الطُّرق «على صورة الرَّحمن» أي: على صفتهِ من العلم والحياة والسَّمع والبصر وغير ذلك، وإن كانتْ صفاتُ الله تعالى لا يُشْبهها شيءٍ. وقال التُّوربشتيُّ: وأهل الحقِّ في ذلك على طبقتين:
          إحداهما: المتنزِّهون عن التَّأويلِ مع نفي التَّشبيه، وإحالةِ العلم إلى علمِ الله تعالى الَّذي أحاطَ بكلِّ شيءٍ علمًا، وهذا أسلمُ الطَّريقتين.
          والطَّبقة الأخرى: يرون الإضافة فيها إضافة تكريمٍ وتشريفٍ، وذلك أنَّ الله تعالى خلقَ آدم على صورةٍ لم يشاكلْها شيءٌ من الصُّور في الجمالِ والكمال، وكثرة ما احتوتْ عليه من الفوائدِ الجليلة.
          وقال الطِّيبيُّ: تأويل الخطَّابيُّ في هذا المقام حسنٌ يجبُ المصير إليه؛ لأنَّ قوله: «طوله» بيانٌ لقوله‼: «على صورتهِ» كأنَّه قيل(5): خلقَ آدمَ على ما عُرف من صورتهِ الحسنةِ وهيئتهِ من الجمالِ والكمالِ وطول القامةِ، وإنَّما خصَّ الطُّول منها؛ لأنَّه لم يكن متعارفًا بين النَّاس.
          وقال القرطبيُّ: كأنَّ مَن رواه «على صورة الرَّحمن» أورده بالمعنى متمسِّكًا بما توهَّمه، فغلطَ في ذلك، وقوله: «ستُّون ذراعًا» يحتملُ أن يريدَ بقدر ذراع نفسه، أو الذِّراع المتعارف يومئذٍ عند المخاطبين، والأوَّل أظهرُ؛ لأنَّ ذراع كلِّ أحدٍ ربعه، فلو كان بالذِّراع المعهود كانت يده قصيرةً في جنبِ طول جسدهِ (فَلَمَّا خَلَقَهُ، قَالَ) ولأبي ذرٍّ: ”خلقه الله، قال“ (اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ) عدَّةٌ من الرِّجال من ثلاثةٍ إلى عشرةٍ. وقال في «شرح المشكاة»: وتخصيص السَّلام بالذِّكر؛ لأنَّه فتح باب المودَّات وتأليف القلوب المؤدِّي إلى استكمالِ الإيمان، كما ورد: «لَا تدخُلُوا الجنَّةَ حتَّى تؤمِنُوا، ولَا تؤمنُوا حتَّى تحابُّوا» _إلى قوله_: «أَفشُوا السَّلَامَ» / ، والسَّلام هو اسم الله، فالمعنى: اسم الله عليك، أي: أنتَ في حفظه، وقيل: السَّلامة(6)، أي: السَّلامة مُستعليةٌ عليك ملازمةٌ لك، ولأبي ذرٍّ: ”نفرٌ“ (مِنَ المَلَائِكَةِ جُلُوسٌ) قال في «الفتح»: ولم أقفْ على تعيينهِم (فَاسْتَمِعْ) بالفوقية وكسر الميم، ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ: ”فاسمَع“ بإسقاط الفوقية وفتح الميم (مَا يُحَيُّونَكَ) بالحاء المهملة بين التَّحتيَّتين(7)، ولأبي ذرٍّ كما في «الفتح»(8): ”يجِيْبونك“ بالجيم المكسورة والتحتية الساكنة بعدها موحدة، من الجواب (فَإِنَّهَا) أي: الكلمات الَّتي يُحيُّون، أو يُجيبون بها (تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ) المسلمين شرعًا لكن في حديث عائشة مرفوعًا: «مَا حَسَدَتْكم اليهودُ علَى شيءٍ، مَا حَسَدُوكم علَى السَّلامِ والتَّأمينِ» أخرجه ابنُ ماجه وصحَّحه ابنُ خُزيمة، وهو يدلُّ على أنَّه شُرِع لهذه الأمَّة دُونهم (فَقَالَ) لهم آدمُ: (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) واستُدلَّ بهذا على أنَّ هذه الصِّيغة هي المشروعة(9) لابتداء السَّلام لقوله: «فهي تحيَّتك وتحيَّة ذرِّيتك»، فلو حذف اللَّام جاز، قال تعالى: {سَلاَمٌ عَلَيْكُم}[الرعد:24] لكن اللَّام أَولى لأنَّها للتَّفخيم، وقال النَّوويُّ: ولو قال: وعليكم السَّلام، بالواو لا يكون سلامًا، ولا يستحقُّ(10) جوابًا لأنَّها لا تصلح للابتداءِ، قاله المتولِّي، فلو أسقط الواو أجزأ، ويجبُ الجواب لأنَّه سلامٌ، وكرههُ الغزاليُّ في «الإحياء»، وعن بعض الشَّافعيَّة فيما نقلهُ ابنُ دقيق العيد: إنَّ المبتدِئ لو قال: عليكم السَّلام لم يجزْ لأنَّها(11) صيغةُ جوابٍ، قال: والأَولى الجواز لحصولِ مسمَّى السَّلام (فَقَالُوا) له الملائكة: (السَّلَامُ عَلَيْكَ) استُدلَّ به على جواز أن يقعَ الرَّدُّ باللَّفظ الذِّي ابتدئ به كما مرَّ، ويأتي مزيدٌ لذلك قريبًا إن شاء الله تعالى، ولأبي ذرٍّ عن الكشميهنيِّ: ”عليك السَّلام“ (وَرَحْمَةُ اللهِ‼، فَزَادُوهُ) الملائكة(12) (وَرَحْمَةُ اللهِ) وهو مستحبٌّ اتِّفاقًا، فلو زادَ المبتدئُ رحمة الله، استُحبَّ أن يُزاد: وبركاتُه، ولو زاد: وبركاته، فهل تشرعُ الزِّيادة في الرَّدِّ؟ وكذا لو زادَ المبتدئُ على بركاته، هل يشرعُ له ذلك؟ عن ابن عبَّاسٍ ممَّا في «الموطأ» قال: انتهى السَّلام إلى البركة، وعن ابنِ عمر الجواز ففي «الموطأ» عنه أنَّه زاد في الجواب والغاديات والرَّائحات، وفي «الأدب المفرد» عن سالمٍ مولى ابن عمر أنَّه أتى ابن عمر مرَّةً، فقال: السَّلام عليكم، فقال: السَّلام عليكم ورحمة الله، ثمَّ أتيته فزدته وبركاته، فردَّ وزادني وطيِّب صلواته، واتَّفقوا على وجوب الرَّدِّ على الكفايةِ.
          قال الحليميُّ(13): وإنَّما كان الرَّدُّ واجبًا؛ لأنَّ السَّلام معناه الأمان، فإذا ابتدأَ به المسلم أخاهُ فلم يُجبه، فإنَّه يتوهَّم منه الشَّرَّ، فيجبُ عليه دفع ذلك التَّوهم عنه (فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ) هو مرتَّبٌ على ما سبق من قوله: «خلَقَ الله آدمَ على صورتهِ» فالفاء فصيحةٌ، ولأبي ذرٍّ والأَصيليِّ: ”يعني: الجنَّة“. قال في «الفتح»: وكأنَّ لفظ «الجنَّة» سقط فزيد فيه يعني (عَلَى صُورَةِ آدَمَ) خبر المبتدأ الَّذي هو فـ «كلُّ من» (فَلَمْ يَزَلِ الخَلْقُ يَنْقُصُ) من طولهِ وجمالهِ (بَعْدُ) أي: بعدَ آدم (حَتَّى الآنَ) فإذا دخلُوا عادوا(14) إلى ما كان عليه أبوهُم من الحسنِ والجمالِ وطولِ القامة. قيل: وقوله: «فلم يزلْ...» إلى آخره، هو معنى قوله تعالى(15): {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}[التين:4_5] قيل: إنَّ(16) في الحديث أنَّ الملائكة يتكلَّمون بالعربيَّة، وعُورض باحتمال أن يكون بغير اللِّسان العربيِّ، ثمَّ لمَّا خلق العربَ ترجمَ بلسانهم.
          والحديثُ سبق في «بدء الخلق» [خ¦3326] وأخرجه مسلمٌ.


[1] «من» هنا وفي الموضع التالي: ليست في (ع) و(د).
[2] «إبطال»: ليست في (د).
[3] بدل ما بين معقوفين بياضٌ في الأصول.
[4] في (د): «رواه البخاريُّ».
[5] في (ص): «قال».
[6] في (ع) و(د) و(ج): «السَّلام»، وكتب على هامش (ج): في نسخة «السلامة».
[7] في (ع) و(د): «من التَّحيَّة».
[8] في (ص): «عن الكشميهنيِّ كما».
[9] «هي»: ليست في (د)، و« المشروعة»: ليست في (ع) و(ص).
[10] في (ع) و(د): «يُسمَّى»، وهو الذي في متن (ج) قبل التصحيح إلى المثبت.
[11] في (ع) و(د): «لأنَّه».
[12] «الملائكة»: ليست في (ص).
[13] في (ع): «الحكيم».
[14] في (د): «دخلوا الجنة عادوا».
[15] «تعالى»: ليست في (د).
[16] في (ع) و(د): «و».