إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث أبي هريرة: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث

          6064- وبه قال: (حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ) بكسر الموحدة وسكون المعجمة، أبو محمد السَّخْتِيانِيُّ المروزيُّ قال: (أَخْبَرَنَا) ولأبي ذرٍّ: ”حَدَّثنا“ (عَبْدُ اللهِ) بن المبارك قال: (أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ) بسكون العين المهملة، ابن راشدٍ (عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ) بكسر الموحدة المشددة، وتشديد ميم همَّام بعد فتح (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) ☺ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه (قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ) أي: اجتنبوهُ، فلا تتَّهموا أحدًا بالفاحشةِ(1) من غيرِ أن يظهرَ عليه ما يقتضيها (فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ) فلا تحكُموا بما يقعُ منه، كما يحكم بنفس العلمِ لأنَّ أوائلَ الظُّنون خواطر لا يملكُ دفعَها، والمرءُ إنَّما يكلَّف بما يقدرُ عليه دونَ ما لا يملكُه. واستُشكل تسمية الظَّنِّ‼ كذبًا، فإنَّ الكذب من صفات الأقوالِ. وأُجيب بأنَّ المراد عدمُ مطابقةِ الواقع سواءٌ كان قولًا أو فعلًا، أو المراد ما ينشأُ عن الظَّنِّ، فوصف الظَّنَّ به مجازًا (وَلَا تَحَسَّسُوا) بالحاء المهملة (وَلَا تَجَسَّسُوا) بالجيم، وفي بعض النسخ _وهو(2) رواية أبي ذرٍّ_ بتقديم الجيم على الحاء، وأصلهما بالتاءين الفوقيتين، فحذف من كلٍّ منهما إحداهما تخفيفًا. قال الحربيُّ _فيما نقله عن السَّفاقِسيِّ_: معناهما واحدٌ وهو تطلُّب الأخبار، فالثَّاني للتَّأكيد، كما قاله ابن الأنباريِّ. وقال الحافظ أبو ذرٍّ: بالحاء الطَّالب لنفسه، وبالجيم لغيرهِ، وقيل: بالجيم البحث عن عورات النَّاس، وبالحاء استماعُ حديثهم، وقيل: بالجيم البحثُ عن بواطن الأمور، وبالحاء البحث عمَّا يدرك بحاسَّة العين أو(3) الأذن، وقيل: بالجيم الَّذي يعرف الخبر بتلطُّف ومنه الجاسوس، وبالحاء الَّذي يطلب الشَّيء بحاستهِ كاستراقِ السَّمع وإبصار الشَّيءِ خفيةً.
          نعم، لو تعيَّن التَّجسُّس طريقًا إلى إنقاذِ نفسٍ من الهلاك، أو منعٍ من زنا ونحوهما شُرِعَ، كما لا يخفى (وَلَا تَحَاسَدُوا) بإسقاط إحدى التائين، والتَّحاسدُ هو أعمُّ من أن يَسعى في إزالةِ تلك النِّعمة عن مستحقِّها أم لا، فإنْ سعى كان باغيًا، وإن لم يسعَ في ذلك ولا أظهرهُ، ولا تسبَّب فيه، فإن كان المانعُ عجزهُ بحيث لو تمكَّن فعل فهو آثمٌ، وإن كان المانعُ التَّقوى فقد يُعذر؛ لأنَّه لا يملك دفعَ الخواطر النَّفسانيَّة، فيكفيهِ في مجاهدةِ نفسه عدم العملِ والعزم عليه، وفي حديث إسماعيل بن أميَّة عند(4) عبد الرَّزَّاق مرفوعًا: «ثلاثٌ لا يسلمُ منها أحدٌ: الطِّيرةُ، والظَّنُّ والحسدُ» قيل: فما المخرجُ منهنَّ يا رسول الله؟ قال: «إذا تطيَّرت فلا ترجعْ، وإذا ظننتَ فلا تحقِّق، وإذا حسدتَ فلا تبغِ».
          (وَلَا تَدَابَرُوا) بحذف إحدى التاءين للتَّخفيف، أي: لا تهاجروا فيُولِّي كلَّ واحدٍ منكما دُبرَهُ لصاحبهِ حين يراه؛ لأنَّ من أبغضَ أعرضَ، ومن أعرض ولَّى دُبره بخلاف من أحبَّ (وَلَا تَبَاغَضُوا) بحذف إحدى التاءين، أي: لا تتعاطوا أسبابَ البغض. نعم، إذا كان البغض لله ╡ وجب (وَكُونُوا) يا (عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا) باكتساب ما تصيرون به كإخوان النَّسب في الشَّفقة والرَّحمة والمحبَّة والمواساة والنَّصيحة.


[1] في (ع): «بفاحشة».
[2] في (ع): «هي».
[3] في (د): «و».
[4] في (د): «عن».