إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: هلم أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده

          5669- وبه قال: (حَدَّثَنَا) ولأبي ذرٍّ: ”حَدَّثني“ بالإفراد (إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى) الرَّازيُّ الفرَّاءُ الحافظُ قال: (حَدَّثَنَا) ولأبي ذرٍّ: ”أَخْبرنا“ (هِشَامٌ) هو ابنُ يوسف الصَّنعانيُّ (عَنْ مَعْمَرٍ) هو ابنُ راشدٍ. قال المؤلِّفُ: (حَ وحدَّثَنِي) بالواو الثابتة، لأبي ذرٍّ وبالإفراد (عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) المسنديُّ قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بنُ همَّام بن نافع الحافظُ أبو بكرٍ الصَّنعانيُّ، أحدُ الأعلام، قال: (أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ) هو ابنُ راشدٍ المذكور (عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمَّد بن مُسلم ابن شهابٍ (عَنْ عُبَيْدِ اللهِ) بضم العين (بْنِ عَبْدِ اللهِ) بن عُتبة بن مسعودٍ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻ ) أنَّه (قَالَ: لَمَّا حُضِرَ) بضم الحاء المهملة وكسر الضاد المعجمة (رَسُولُ اللهِ صلعم ) أي: جاءَهُ أجلُه (وَفِي البَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ) ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ: ”منهُم“ «بالميم والنون» بدل: «الفاء والياء»، (عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ) ☺ (قَالَ النَّبِيُّ صلعم : هَلُمَّ) استُشكل بأنَّ المُناسب أن يقول: هلمُّوا بالجمع. وأُجيب: بأنَّها وقعتْ على لغة الحجازيينَ يَستوي فيها الجمعُ والمفردُ، قال تعالى: {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا}[الأحزاب:18] أي: تعالوا (أَكْتُبْ) بالجزمِ جوابُ الأمرِ، ويجوز الرَّفعُ على الاستئناف، أي: آمرُ من يكتب (لَكُمْ كِتَابًا) فيه استخلافُ أبي بكرٍ بعدِي، أو فيه مهمَّاتُ الأحكام (لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ(1)) ولا(2) تَرتابوا لحصولِ‼ الاتِّفاق على المنصوصِ عليه، و«لا تضلُّوا» نفيٌ حُذفت نونهُ لأنَّه بدلٌ من جواب الأمرِ، وقد جوَّز بعضُهم تعدُّد جوابِ الأمرِ من غير حرف العطفِ (فَقَالَ عُمَرُ) ☺ : (إِنَّ النَّبِيَّ صلعم قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الوَجَعُ) فلا تشقُّوا عليه بإملاءِ الكتابِ(3) المقتضِي للتَّطويلِ مع شدَّة الوجعِ (وَعِنْدَكُمُ القُرْآنُ) فيه تبيانُ كلِّ شيءٍ (حَسْبُنَا) يكفينَا (كِتَابُ اللهِ) المنزل فيهِ {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}[الأنعام:38] و{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[المائدة:3] فلا تقعُ واقعةٌ إلى يوم القيامةِ إلَّا وفي القرآن والسُّنَّة بيانها نصًّا أو دلالةً، وهذا من دقيق نظرِ عُمر، فانظُر كيف اقتصرَ ☺ على ما سبق بيانُه تخفيفًا عليه صلعم ولئلَّا ينسدَّ بابُ الاجتهادِ والاستنباطِ، وفي تركه صلعم الإنكارَ على عُمر دليلٌ على استصوابِ رأيهِ (فَاخْتَلَفَ أَهْلُ البَيْتِ) النَّبويِّ (فَاخْتَصَمُوا؛ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ) امتثالًا لأمرهِ ولما فيهِ من زيادةِ الإيضاحِ: (قَرِّبُوا) أدوات الكتابةِ (يَكْتُبْ لَكُمُ النَّبِيُّ صلعم ) بجزم يكتبُ جواب الأمرِ (كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ) قال الجوهريُّ: الضَّلالةُ ضدُّ الرَّشاد (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ): إنَّه صلعم قد غلبَ عليهِ الوجعُ وعندكم القرآنُ، حسبُنا كتابُ الله، وكأنَّهم فهموا من قرينةٍ قامَت عندهم أن أمره(4) صلعم بذلكَ لم يكن للوجوبِ، بل هو إلى اختيارهم، فلذا اختلفُوا بحسبِ اجتهادِهم (فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالاِخْتِلَافَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلعم قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : قُومُوا) زاد في «العلمِ» عنِّي [خ¦114]. وبها تحصلُ المطابقةُ.
          (قَالَ عُبَيْدُ اللهِ) بن عبد اللهِ، السَّابقُ في السَّند: (وكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ) عند تحديثه بهذا الحديث (يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ) إنَّ المصيبَة كلَّ المصيبة (مَا حَالَ) أي: الَّذي حجز (بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلعم وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الكِتَابَ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ) بفتح اللام والمعجمة، واللَّغط الصَّوتُ والجلبَة، أي: إنَّ الاختلافَ كان سببًا لترك كتابةِ الكتاب، ووقع في «كتابِ العلمِ» «فخرجَ ابنُ عبَّاس يقول: إنَّ الرَّزيَّة كُلَّ الرَّزِيَّةِ»(5) [خ¦114]. وظاهرهُ: أنَّ ابن عبَّاس كان معهم وأنَّه في تلك الحالةِ خرج قائلًا(6) هذه المقالةَ وليس كذلك، بل المرادُ أنَّه خرجَ من المكانِ الَّذي كان به وهو يقولُ ذلك، ويؤيِّد ذلك روايةُ أبي نُعَيمٍ في «المستخرج». قال عبيدُ الله: فسمعتُ ابن عبَّاسٍ يقول... إلى آخره، وعبيد اللهِ تابعيٌّ‼ من الطَّبقةِ الثَّانية لم يدركِ القصَّة في وقتها لأنَّه ولد بعد النَّبيِّ صلعم بمدَّةٍ طويلةٍ، ثمَّ سمعها من ابن عبَّاسٍ بعد ذلك بمدَّةٍ أُخرى، وكان الأولى ذكر هذا في محلِّه من «كتاب العلم»، لكن منع منه حصولُ ذهولٍ عنه، وقد وقع في الإشارةِ المفهمة ثَمَّ(7)، والله الموفِّق.


[1] في (م): «بعدي».
[2] في (د): «لا».
[3] في (ص) و(ب): «الكاتب».
[4] في (ص): «أنه».
[5] «كل الرزية»: ليست في (س).
[6] في (ص) زيادة: «يقول».
[7] في (م): «له».