إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض

          5550- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ) قال: (حَدَّثَنَا) ولأبي ذرٍّ: ”أَخْبرنا“ (عَبْدُ الوَهَّابِ) / بن عبد المجيد الثَّقفيُّ قال: (حَدَّثَنَا أَيُّوبُ) السَّخْتيانيُّ (عَنْ مُحَمَّدٍ) هو ابنُ سيرين (عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ) عبد الرَّحمن (عَنْ) أبيه (أَبِي بَكْرَةَ) نُفَيع بن الحارث ( ☺ ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه (قَالَ: الزَّمَانُ) ولأبي ذرٍّ: ”إنَّ الزَّمان“ (قَدِ اسْتَدَارَ) استدارة (كَهَيْئَتِهِ) مثل حالته (يَوْمَ خَلَقَ اللهُ(1) السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) روي أنَّهم كانوا ينسؤون الحجَّ في كلِّ عامين من شهرٍ إلى شهرٍ آخر، ويجعلون(2) الشَّهر الَّذي أنسؤوا فيه ملغى، فتكون تلك السَّنة ثلاثة عشر شهرًا ويتركون العام الثَّاني على ما كان عليه الأوَّل، فلا يزالون كذلك إلى خمسٍ وعشرين سنة، ثمَّ يستديرُ حينئذٍ الشَّهر الَّذي بُدِئ منه، وكانت السَّنة الَّتي حجَّ فيها رسولُ الله صلعم حجَّة الوداع، هي(3) السَّنة الَّتي وصل ذو الحجَّة إلى موضعهِ، فقال صلعم في خطبتهِ: «إنَّ الزَّمان قد استدارَ كهيئتهِ يوم خلق الله السَّموات والأرض» أي: إنَّ الله تعالى قد أدحضَ أمر النَّسيء فإنَّ حساب السَّنة قد استقام ورجعَ إلى الأصل الموضوع له.
          (السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا) تأكيدٌ في إبطال أمر النَّسيء، وأنَّ أحكام الشَّرع تبنى على الشُّهور القمريَّة المحسوبةِ بالأهلَّة دون الشَّمسيَّة (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) لعظمِ حرمتها (ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ) حذف التَّاء من العددِ باعتبار أنَّ الشَّهر الَّذي هو واحد الأشهر بمعنى: اللَّيالي، فاعتبر لذلك تأنيثُه، ولابنِ عساكرَ: ”ثلاثةٌ متواليات“ (ذُو القَعْدَةِ) للقعودِ فيه عن القتال (وَذُو الحِجَّةِ) للحجِّ (وَالمُحَرَّمُ) لتحريمِ القتال فيه (وَ) واحدٌ فردٌ وهو (رَجَبُ مُضَرَ) أضيف إليها لأنَّها كانت تحافظ على تحريمه أشدَّ من محافظة سائر العرب، ولم يكن يستحلُّه أحدٌ من العرب، وسمِّي رجبًا لترجيب العرب إيَّاه (الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى) بضم الجيم وفتح الدال المهملة (وَشَعْبَانَ) ذكره تأكيدًا وإزاحة للرَّيب الحادثِ فيه من النَّسيء (أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟) قال القاضِي البيضاويُّ: يريد تذكارهُم حرمة الشَّهر، وتقريرها في نفوسهم ليبنيَ عليها ما أرادَ تقريرهُ، وقولهم: (قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) مراعاةً للأدب، وتحرُّزًا عن التَّقدُّم بين يدي الله ورسوله، وتوقفًا فيما لا يعلم الغرض من السُّؤال عنه (فَسَكَتَ) صلعم (حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: أَلَيْسَ ذَا الحِجَّةِ؟)‼ ولابنِ عساكرَ وأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”ذو الحجة“ (قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: أَلَيْسَ البَلْدَةَ؟) بسكون اللام، مكة الَّتي جعلها الله تعالى حرمًا(4). قال التُّوربشتيُّ: وجه تسميتهَا بالبلدةِ وهي تقعُ على سائرِ البلدان أنَّها الجامعة للخير المستحقَّة أن تسمَّى بهذا الاسم لتفوُّقها سائر مسمَّيات أجناسها تفوَّق الكعبة في تسميتِها بالبيت سائر مسمَّيات أجناسها حتَّى كأنَّها هي المحلُّ المستحقُّ للإقامة به(5) (قُلْنَا: بَلَى) يا رسول الله (قَالَ) ╕ : (فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ) صلعم (حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟) الَّذي تُنْحَر فيه الأضاحي في سائر الأقطار، والهدايا بمنى (قُلْنَا: بَلَى) وتمسَّك به من خصَّ النَّحر بيوم العيد، ووجهه أنَّه ╕ أضافَ هذا اليوم إلى جنس النَّحر لأنَّ اللام هنا جنسيَّة فتعمُّ، فلا يبقَى نحرٌ إلَّا في ذلك اليوم، لكن قال القرطبيُّ: التَّمسُّك بإضافة النَّحر إلى اليوم الأوَّل ضعيفٌ مع قوله تعالى: ▬ليَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ↨ [الحج:28]. انتهى.
          وأَجاب الجمهورُ بأنَّ المراد النَّحر الكامل الفضل، والألف واللَّام كثيرًا ما تستعملُ للكمال، نحو: {وَلَـكِنَّ الْبِرَّ}[البقرة:177] و«إنَّما الشَّديد الَّذي يملك نفسه». ولذا قيل: اليوم الأوَّل أفضل الأيام. وقال المالكيَّة: أيَّام النَّحر ثلاثة مبدؤها يوم النَّحر بعد صلاةِ الإمام وذبحه في المصلَّى، وعند الشَّافعية: آخر وقتها غروب الشَّمس من آخر أيَّام التَّشريق لحديث: «في كلِّ أيَّام التَّشريق ذبحٌ» رواه ابن حبَّان، وقال أبو حنيفة وأحمد: يومان بعد النَّحر كقول المالكيَّة.
          (قَالَ) صلعم / : (فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، قَالَ مُحَمَّدٌ) هو ابنُ سيرين: (وَأَحْسِبُهُ) أي: وأحسب ابن أبي بكرة (قَالَ) في حديثه: (وَأَعْرَاضَكُمْ) قال التُّوربشتيُّ: أنفسكم وأحسابكم، فإنَّ العرضَ يقال للنَّسب والحسب(6). يقال: فلانٌ نقيُّ العرض، أي: بريء أن يُعاب. وتُعُقِّبَ بأنَّه لو كان المراد من الأعراض النُّفوس لكان تكرارًا لأنَّ ذكر الدِّماء كافٍ؛ إذ المراد بها النُّفوس. وقال الطِّيبيُّ(7): الظَّاهر أنَّ المراد الأخلاق النَّفسانيَّة، فالمراد هنا: الأخلاق، ثمَّ قال: والتَّحقيق ما في «النِّهاية» أنَّ العِرضَ موضع المدح والذَّمِّ من الإنسان(8)، ولذا قيل: العرض النَّفس إطلاقًا للمحلِّ على الحال (عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ‼ يَوْمِكُمْ هَذَا) يوم النَّحر (فِي بَلَدِكُمْ هَذَا) مكَّة (فِي شَهْرِكُمْ هَذَا) ذي الحجَّة، وسقط لفظ «هذا» لأبي ذرٍّ وابن عساكرَ (وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ) يوم القيامة (فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ) فيجازيكُم عليها (أَلَا) بالتَّخفيف (فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلَّالًا) بضم الضاد المعجمة وتشديد اللام الأولى، جمع: ضالٍّ (يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلَا) بالتَّخفيف (لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ) ما ذكر (فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ) بفتح التحتية وسكون الموحدة (أَنْ يَكُونَ أَوْعَى) بالواو الساكنة بعد الهمزة المفتوحة، ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”أرعى“ بالراء بدل الواو (لَهُ) للَّذي ذكر (مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ) منِّي (وَكَانَ) بالواو، ولأبي ذرٍّ وابن عساكرَ: ”فكان“ (مُحَمَّدٌ) أي: ابن سيرين (إِذَا ذَكَرَهُ) ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ: ”ذكر“ بحذف الضَّمير المنصوب (قَالَ: صَدَقَ النَّبِيُّ صلعم ، ثُمَّ قَالَ) النَّبيُّ صلعم : (أَلَا) بتخفيف اللام (هَلْ بَلَّغْتُ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ) زاد أبو ذرٍّ عن المُستملي: ”مرَّتين“ وهو من الحديث فصل بينه الرَّاوي وبين ما قبله بقوله: وكان محمَّد إذا ذكرهُ قال: صدق النَّبيُّ صلعم .
          وهذا الحديث تقدَّم في «العلم» [خ¦105] و«الحجِّ» [خ¦1741] وتفسيره «براءة» مفرقًا [خ¦4662].


[1] لفظ الجلالة «الله»: ليست في (د).
[2] في (ص) زيادة: «أن».
[3] في (ص) و(م): «وهي».
[4] في (ص): «حرامًا».
[5] في (ص) و(م): «بها».
[6] في (د): «للحسب والنسب». وعبارة التوربشتي والطيبي: «يقال للنفس والحسب».
[7] في (م): «القرطبي».
[8] «من الإنسان»: ليست في (د).