إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: أوفي هذا أنت يا ابن الخطاب إن أولئك قوم عجلوا

          5191- وبه قال: (حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ) الحكمُ بنُ نافعٍ قال: (أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ) هو ابنُ أبي حمزةَ (عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمَّدِ بنِ مسلمِ ابنِ شهابٍ أنَّه (قَالَ: أَخْبَرَنِي) بالإفراد (عُبَيْدُ اللهِ) بضم العين (ابْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ) بالمثلثة (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ ☻ ) أنَّه (قَالَ: لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ) ☺ (عَنِ المَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلعم اللَّتَيْنِ قَالَ اللهُ تَعَالَى) في حقِّهما: ({إِن تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}[التحريم:4]) أي: فقد وجدَ منكما ما يوجبُ التَّوبة (حَتَّى حَجَّ وَحَجَجْتُ مَعَهُ) فلمَّا رجعنا وكنَّا ببعضِ الطَّريق (وَعَدَلَ) عن الطَّريق المسلوكةِ الجادَّة(1) إلى الأراكِ لحاجتهِ، وفي مسلم: أنَّه مرُّ الظَّهران (وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِإِدَاوَةٍ) فيها ماء (فَتَبَرَّزَ، ثُمَّ جَاءَ فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْهَا فَتَوَضَّأَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، مَنِ المَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلعم اللَّتَانِ قَالَ اللهُ تَعَالَى) فيهما: ({إِن تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} قَالَ(2): وَاعَجَبًا) بالتنوين في الفرع، اسم فعل بمعنى: أعجب، كقوله: واهًا، ويجوز عدمه لأنَّ الأصل فيه: واعجبِي، فأبدلت الكسرة فتحة فصارت الياء ألفًا، كقوله: يا أسفا ويا حسرتا، وفي روايةِ معمر: واعجبِي (لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ) أي: كيف خفيَ عليك هذا القدرُ مع حرصكَ على طلب العلمِ؟ وفي «الكشَّاف»: أنَّه كره ما سأله، وبذلك(3) جزم الزُّهريُّ، كما في مسلم (هُمَا عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ. ثُمَّ اسْتَقْبَلَ عُمَرُ...) الحَدِيثَ يَسُوقُهُ إلى آخر القصَّة التي كانت سبب(4) نزول الآية المسؤول عنها (قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ) اسمه أوسُ بنُ خوليِّ، أو عتبان بن مالك، والأوَّل هو الرَّاجح لأنَّه منصوصٌ عليه عند ابن سعد. والثَّاني استنبطهُ ابن بشكوال من المؤاخاةِ بينهما، وما ثبت بالنصِّ مقدَّم (فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَهُمْ مِنْ عَوَالِي المَدِينَةِ) قريةٌ من قرى المدينةِ ممَّا يلي الشَّرق، وكانت منازل الأوسِ (وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ) من العوالي (عَلَى النَّبِيِّ صلعم ) نجعله نوبًا (فَيَنْزِلُ) جاري الأنصاري (يَوْمًا، وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ) على النَّبيِّ صلعم (جِئْتُهُ بِمَا حَدَثَ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ اليَوْمِ مِنَ الوَحْيِ أَوْ غَيْرِهِ) من الحوادثِ الكائنةِ عند النَّبيِّ صلعم (وَإِذَا نَزَلَ) جاري (فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ) و«إذا» شرطيَّة أو ظرفيَّة (وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ)‼ ونحن بمكَّة (نَغْلِبُ النِّسَاءَ) نحكمُ عليهنَّ ولا يحكمنَ علينا (فَلَمَّا قَدِمْنَا) من مكَّة (عَلَى الأَنْصَارِ) بالمدينة (إِذَا) هم (قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ) ويحكمنَ عليهم (فَطَفَـِقَ) بفتح الطاء المهملة وكسر الفاء وتفتح، جعل أو أخذَ (نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الأَنْصَارِ) بطريقتهنَّ(5) وسيرتهنَّ، فجعلنَ يكلِّمنَنا ويراجعنَنا (فَصَخِبْتُ) بالصاد المهملة المفتوحة والخاء المعجمة المكسورة، ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”فسَخِبتُ“ «بالسين المهملة» بدل: «الصاد»، أي: صحت (عَلَى امْرَأَتِي) زينب بنت مظعون لأمرٍ غضبتُ منه (فَرَاجَعَتْنِي) راددتني في القولِ (فَأَنْكَرْتُ) عليها (أَنْ تُرَاجِعَنِي. قَالَتْ: وَلِمَ) بكسر اللام وفتح الميم (تُنْكِرُ) عليَّ (أَنْ أُرَاجِعَكَ؟! فَوَاللهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلعم لَيُرَاجِعْنَهُ) بكسر الجيم وسكون العين وفتح النون (وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ اليَوْمَ حَتَّى اللَّيْلَِ) بنصب «اليومَ» على الظَّرفية، وخفض «اللَّيل» بـحتَّى الَّتي بمعنى «إلى»، ونصبِه على أنَّها للعطف، وفي رواية عبيد بنِ حنينٍ: وإنَّ ابنتكَ لتراجعُ رسول الله صلعم حتَّى يظل يومه غضبان. قال عمر: (فَأَفْزَعَنِي ذَلِكَ وَقُلْتُ لَهَا: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ. ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي) أي: لبستها أجمع جميعًا (فَنَزَلْتُ) من العوالي إلى المدينةِ (فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ) ابنتي (فَقُلْتُ لَهَا: أَيْ حَفْصَةُ، أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ النَّبِيَّ صلعم اليَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ؟) والهمزة في «أتُغاضب» / للاستفهام الإنكاري (قَالَتْ: نَعَمْ) قال عمر: (فَقُلْتُ) لها: (قَدْ خِبْتِ وَخَسِرْتِ) بكسر الفوقيتين (أَفَتَأْمَنِينَ أَنْ يَغْضَبَ اللهُ) ╡ (لِغَضَبِ رَسُولِهِ(6) صلعم فَتَهْلِكِي) بكسر اللام (لَا تَسْتَكْثِرِي النَّبِيَّ صلعم ) لا تطلبي منه الكثيرَ، وفي رواية يزيدِ بنِ رُومان: لا تكلِّمي رسولَ الله صلعم ، فإنَّ رسول الله صلعم ليس عندَهُ دنانيرَ ولا دراهمَ، فما كان لكِ من حاجةٍ حتَّى دُهْنَة سَلِيني (وَلَا تُرَاجِعِيهِ فِي شَيْءٍ) من الكلامِ (وَلَا تَهْجُرِيهِ) ولو هَجَرَكِ (وَسَلِينِي مَا بَدَا) ما ظهر (لَكِ) ممَّا تريدين (وَلَا يَغُرَّنَّكِ) بتشديد الراء والنون (أَنْ كَانَتْ) بفتح الهمزة وتكسر (جَارَتُكِ أَوْضَأَ) أحسنَ وأجملَ (مِنْكِ، وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صلعم ) فلا يؤاخذها صلعم إذا فعلت ما نهيتُكِ عنه، فإنَّها تَدِلُّ بجمالها ومحبَّته صلعم لها (يُرِيدُ) عمر ☺ بذلك (عَائِشَةَ) ولم يقل: ضرَّتُك بل جارتُك أدبًا منه ☺ ، أو أنَّها كانت جارتها حقيقةً، منزلها جوار منزلها، والعرب تطلق على الضَّرَّة‼ جارة(7) لتجاورهما المعنويِّ لكونهما عند شخصٍ واحدٍ، وإن لم يكن حسيًّا.
          (قَالَ عُمَرُ: وَكُنَّا قَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّ غَسَّانَ) بفتح الغين المعجمة والسين المهملة المشددة، أي: قبيلةُ غسَّان وملكهم، واسمه الحارثُ بن أبي شمر (تُنْعِلُ الخَيْلَ) بضم الفوقية وكسر العين (لِغَزْوِنَا) ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ: ”لتغزونَا“، وفي «اللِّباس»: «وكان مَنْ حَوْل رسول الله صلعم قد استقام له، فلم يبق إلَّا ملكُ غسَّان بالشَّام كنَّا نتخوَّف أن يأتينَا» [خ¦5843] (فَنَزَلَ صَاحِبِي الأَنْصَارِيُّ) من العوالي إلى المدينةِ (يَوْمَ نَوْبَتِهِ، فَرَجَعَ) من المدينةِ (إِلَيْنَا عِشَاءً، فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا) أي: طرقهُ طرقًا شديدًا ليخبرني بما حدث عند النَّبيِّ صلعم من الوحي وغيره على العادةِ (وَقَالَ) لمَّا أبطأتُ عن إجابتهِ: (أَثَمَّ هُوَ؟) بفتح المثلثة، أي: في البيت؟ وكأنَّه ظنَّ أنَّه خرج منه. قال عمر ☺ : (فَفَزِعْتُ) بكسر الزاي، خفت من شدَّة ضربه البابَ إذ هو خلاف عادتهِ(8) (فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ) فقلت له: ما الخبر؟ (فَقَالَ: قَدْ حَدَثَ اليَوْمَ أَمْرٌ عَظِيمٌ. قُلْتُ) له: (مَا هُوَ، أَجَاءَ غَسَّانُ؟ قَالَ: لَا، بَلْ أَعْظَمُ(9) مِنْ ذَلِكَ وَأَهْوَلُ، طَلَّقَ النَّبِيُّ صلعم نِسَاءَهُ) أي: وحفصةُ منهنَّ، فهو أهول بالنِّسبة إلى عمرَ لأجل ابنته، وزاد أبو ذرٍّ هنا: ”وقال عُبيد بن حُنين “ بضم العين والحاء المهملتين فيهما مصغَّرين، مولى زيد بن الخطَّابِ العدويِّ، ممَّا وصله المؤلِّف في تفسير «سورة النَّجم»(10): ”سمع ابن عبَّاس عن عمر _أي: بهذا الحديث_ فقال _يعني الأنصاريُّ_: اعتزل النَّبيُّ صلعم أزواجه“ [خ¦4913] بدل قوله: «طلَّق نساءهُ» ولم يذكر البخاريُّ هنا من رواية عبيدِ بن حُنينٍ إلَّا(11) هذا القدر، ولعلَّه أراد أن يبيِّن به أن قوله: طلَّق نساءهُ. لم تتَّفق الرِّوايات عليه، فلعلَّ بعضهم رواه بالمعنى لما وقع من اعتزالهِ صلعم لهنَّ إذ لم تجر عادته بذلك، فظنُّوا أنَّه طلقهنَّ، وأمَّا اللَّاحق فهو من رواية أبي ثور لا من روايةِ عبيد؛ وهو قوله: (فَقُلْتُ: خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ) إنَّما خصَّها بالذِّكر لمكانتها منه (قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ هَذَا يُوشِكُ) بكسر الشين المعجمة، يسرعُ (أَنْ يَكُونَ) لأنَّ مراجعتهنَّ قد تفضي إلى الغضبِ المفضي إلى الفرقةِ (فَجَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي) لبستها جميعًا ودخلت المسجد (فَصَلَّيْتُ صَلَاةَ الفَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ صلعم ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلعم مَشْرَُبَةً) بفتح الميم وسكون الشين المعجمة وضم الراء وفتحها، أي: غرفةً (لَهُ، فَاعْتَزَلَ فِيهَا، وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَإِذَا هِيَ تَبْكِي، فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكِ؟ أَلَمْ أَكُنْ حَذَّرْتُكِ هَذَا؟) وزاد في رواية سماك: «لقد(12) علمت أنَّ رسول الله صلعم لا يحبُّكِ، ولولا‼ أنا لطلَّقَكِ، فبكت أشدَّ البكاءِ». وعند ابنِ مردويه: «قال: والله إن كان طلَّقكِ لا أُكلِّمُك أبدًا» (أَطَلَّقَكُنَّ النَّبِيُّ صلعم ؟ قَالَتْ: لَا أَدْرِي، هَا هُوَ) ╕ (ذَا مُعْتَزِلٌ فِي المَشْرُبَةِ، فَخَرَجْتُ) من عند حفصةَ (فَجِئْتُ إِلَى المِنْبَرِ، فَإِذَا حَوْلَهُ) أي: المنبرِ (رَهْطٌ) لم يقفِ الحافظ ابن حجرٍ على أسمائهم (يَبْكِي بَعْضُهُمْ، فَجَلَسْتُ مَعَهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ) من اعتزالهِ صلعم / نساءهُ، ومنهنَّ حفصة (فَجِئْتُ المَشْرُبَةَ الَّتِي فِيهَا النَّبِيُّ صلعم ، فَقُلْتُ لِغُلَامٍ لَهُ أَسْوَدَ) اسمه: رَباح _بالراء المفتوحة والموحدة المخففة_: (اسْتَأْذِنْ) رسولَ الله صلعم (لِعُمَرَ، فَدَخَلَ الغُلَامُ فَكَلَّمَ النَّبِيَّ صلعم ) في ذلك (ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: كَلَّمْتُ النَّبِيَّ صلعم وَذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ) بفتح الصاد المهملة والميم، فسكت كالآتية(13) (فَانْصَرَفْتُ حَتَّى جَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ المِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ) ثانيًا (فَقُلْتُ لِلْغُلَامِ) رباح: (اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: قَدْ(14) ذَكَرْتُكَ لَهُ) ╕ (فَصَمَتَ، فَرَجَعْتُ فَجَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ المِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَجِئْتُ الغُلَامَ) ثالثًا (فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَر، فَدَخَلَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ) بتشديد الياء، وهذه اللَّفظة ساقطةٌ في الأوليين (فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ) ╕ (فَصَمَتَ، فَلَمَّا وَلَّيْتُ مُنْصَرِفًا قَالَ: إِذَا الغُلَامُ) رباح (يَدْعُونِي، فَقَالَ: قَدْ أَذِنَ لَكَ النَّبِيُّ صلعم ، فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلعم فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى رُِمَالِ حَصِيرٍ) بكسر الراء وتضم، أي: على سرير(15) مرمولٍ بما(16) يُرْملُ به الحصيرُ، أي: ينسجُ، ورمالُ الحصيرِ: ضلوعهُ المتداخلة فيه(17) كالخيوطِ في الثَّوب (لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ، قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِهِ) الشَّريف حال كونه (مُتَّكِئًا) ولأبي ذرٍّ: ”متَّكئ“ بالرفع، أي: وهو متَّكئٌ (عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ) جلد (حَشْوُهَا لِيفٌ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ قُلْتُ) له (وَأَنَا قَائِمٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟) بهمزة الاستفهام(18) (فَرَفَعَ) النَّبيُّ(19) ╕ (إِلَيَّ بَصَرَهُ(20) فَقَالَ: لَا) لم أطلقهنَّ (فَقُلْتُ: اللهُ أَكْبَرُ) تعجُّبًا(21) ممَّا أخبرني به الأنصاريُّ من التَّطليق جازمًا بهِ(22)، أو حامدًا لله تعالى على ما أنعمَ بهِ عليه من عدم وقوع الطَّلاق (ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ) حال كوني (أَسْتَأْنِسُ) وجزم القرطبيُّ بأنَّه للاستفهام. قال في «الفتح»: فيكون أصله بهمزتين تسهل إحداهُما، وقد تحذف تخفيفًا، أي: أنبسطُ في الحديثِ وأستأنسُ في ذلك (يَا رَسُولَ اللهِ) منادى مضاف (لَوْ رَأَيْتَنِي) بفتح التاء الفوقية‼ (وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ إِذَا) الأنصارُ (قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ) وذكر مراجعة زوجتهِ له إلى آخر ذلك (فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صلعم ) ضحكَ من غير صوتٍ (ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ رَأَيْتَنِي) بفتح الفوقية (وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ لَهَا: لَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ أَوْضَأَ) أجملَ (مِنْكِ وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صلعم _يُرِيدُ) عمر: (عَائِشَةَ_ فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صلعم تَبَسُّمَةً) بضم السين، ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ بكسرها من غير مثناة تحتية فيهما، كذا من الفرع وأصله. وقال في «الفتح»(23): تَبَسُّمة _بتشديد السين_ وللكُشمِيهنيِّ: ”تبْسِيمَة“ (أُخْرَى، فَجَلَسْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ تَبَسَّمَ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي فِي بَيْتِهِ) أي: نظرتُ فيه (فَوَاللهِ مَا رَأَيْتُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا يَرُدُّ البَصَرَ غَيْرَ أَهَبَةٍ) بفتح الهمزة والهاء منوَّنة، جلود (ثَلَاثَةٍ) لم تُدْبغ، أو مطلقًا دبغت أو لم تدبغْ (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ) ╡ (فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ، فَإِنَّ فَارِسًا) بالصَّرف، ولأبي ذرٍّ: ”فارِسَ“ بعدمه (وَالرُّومَ قَدْ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ وَأُعْطُوا الدُّنْيَا، وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللهَ، فَجَلَسَ النَّبِيُّ صلعم وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: أوَفِي هَذَا أَنْتَ) بهمزة الاستفهام وواو العطف على مقدَّر بعدها. قال الكِرْمانيُّ: أي: أنت في مقامِ استعظامِ التجمُّلاتِ الدُّنيويَّة واستعجالها (يَا ابْنَ الخَطَّابِ؟) وعند مسلم من رواية مَعمر: «أوَفي شكٍّ أنتَ يا ابنَ الخطَّاب؟» كرواية عقيل السَّابقة في المظالمِ [خ¦2468] أي: أنتَ في شكٍّ أنَّ التَّوسُّع في الآخرةِ خيرٌ من التَّوسع في الدُّنيا؟ (إِنَّ أُولَئِكَ) فارس والرُّوم (قَوْمٌ عُجِّلُوا طَيِّبَاتِهِمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، اسْتَغْفِرْ لِي) عن اعتقادِي أنَّ التَّجمُّلات الدُّنيويَّة مرغوبٌ فيها (فَاعْتَزَلَ النَّبِيُّ صلعم نِسَاءَهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الحَدِيثِ حِينَ أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ إِلَى عَائِشَةَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً) وذلك أنَّه صلعم خلا بمارية القبطيَّة في بيت حفصة، فجاءتْ فوجدتها معه، فقالت: يا رسول الله، تفعلُ هذا معي دون نسائكَ؟ فقال: «لا تُخبري أحدًا هي عليَّ حرامٌ» فأخبرت عائشةَ. أو السَّبب تحريمُ العسل السَّابق ذكره في سورة / التَّحريم مختصرًا [خ¦4912] الآتي إن شاء الله تعالى بعون الله ╡ بأبسط منه في «الطَّلاق» [خ¦5267] [خ¦5267].
          وعند ابن مَرْدويه من طريق يزيد بنِ رُومان، عن عائشة: أنَّ حفصةَ أُهْديتْ لها عُكَّة فيها عسلٌ، وكان رسولُ الله صلعم إذا دخلَ عليها حبستْهُ حتَّى تُلْعِقَهُ أو تسقيَهُ منها، فقالتْ عائشةُ لجاريةٍ عندها حبشيَّةٍ‼ _يقال لها: خضراء_ إذا دخلَ على حفصةَ فانظري ما تصنعُ، فأخبرَتها الجاريةُ بشأن العسلِ، فأرسلتْ إلى صواحبها فقالت: إذا دخل عليكنَّ فقلن: إنَّا نجدُ منك ريحَ مغافير، فقال: «هو عسلٌ، والله لا أطعمهُ أبدًا» فلمَّا كان يوم حفصة استأذنتهُ أن تأتي أباها، فأذنَ لها فذهبتْ، فأرسل إلى جاريتهِ مارية فأدخلَها بيت حفصة، قالت حفصة(24): فرجعتُ فوجدتُ الباب مُغلقًا، فخرجَ ووجهه يقطرُ، فعاتبته، فقال: «أشهدُكِ أنَّها عليَّ حرامٌ، انظُرِي لا تُخْبِري بهذا امرأةً، وهي عندَكِ أمانَةٌ» فلمَّا خرجَ قرعتْ حفصة الجدار الَّذي بينها وبين عائشة فقالت: ألا أبشِّرُك أنَّ رسول الله صلعم قد حرَّم أَمَته. ففيه الجمع بين القولين.
          وعند ابنِ سعدٍ من طريق عمرةَ عن عائشةَ قالت: أهديتُ لرسولِ الله صلعم هديَّةً، فأرسل إلى كلِّ امرأةٍ من نسائهِ نصيبَها، فلم ترضَ زينبُ بنتُ جحشٍ بنصيبها، فزادَها مرَّة أخرى فلم ترضَ، فقالت عائشةُ: لقد أَقْمَأَتْ وجهَكَ، ترُدُّ عليكَ الهديَّةَ، فقال: «لأنتنَّ أهونُ على اللهِ من أن تُقْمِئننِي، لا أدخلُ عليكنَّ شهرًا». وفي مسلم من حديث جابرٍ: أنَّ أبا بكرٍ وعمر دخلا على رسولِ الله صلعم وحولَه نساؤُهُ يسألنَ النَّفقةَ، فقام أبو بكرٍ إلى عائشةَ، وقام عمرُ إلى حفصةَ، ثمَّ اعتزلهُنَّ شهرًا، فيحتملُ أن يكون جميعُ ما ذكر كان سببًا لاعتزالهنَّ.
          (وَكَانَ) ╕ (قَالَ) في أوَّل الشَّهر: (مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا. مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ) أي: غضبه (عَلَيْهِنَّ حِينَ عَاتَبَهُ اللهُ ╡) بقولِهِ: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ}[التحريم:1] (فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَبَدَأَ بِهَا) لكونه اتَّفق أنَّه كان يوم نوبتِها (فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ كُنْتَ قَدْ أَقْسَمْتَ أَنْ لَا تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا، وَإِنَّمَا أَصْبَحْتَ مِنْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَعُدُّهَا عَدًّا، فَقَالَ) صلعم : (الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ) زاد أبو ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ: ”ليلة“ (فَكَانَ) بالفاء، ولأبي ذرٍّ: ”وكان“ (ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً). قال في «الفتح»: ومن اللَّطائف أنَّ الحكمة في الشَّهر مع أنَّ مشروعيَّة الهجرِ(25) ثلاثةُ أيَّام أنَّ عدَّتهنَّ كانت تسعة، فإذا ضُربت في ثلاثة كانت سبعة وعشرين، واليومانِ لماريَّة لكونها كانت أَمَةً، فنقصتْ عن الحرائرِ. (قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى آيَةَ التَّخَيُّرِ) بفتح الخاء المعجمة وتشديد التحتية مضمومة في الفرع كأصله(26) أي: في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا}[الأحزاب:28] إلى آخرها‼. (فَبَدَأَ بِي أَوَّلَ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ) في التَّخيير (فَاخْتَرْتُهُ) صلعم (ثُمَّ خَيَّرَ نِسَاءَهُ كُلَّهُنَّ، فَقُلْنَ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ) ╢ اخترنَ الله ورسوله.
          وهذا الحديث سبق في «سورة التَّحريم» مختصرًا [خ¦4915](27) وفي «كتاب المظالم»، في: «باب الغرفة والعليَّة المشرفة» مطولًا [خ¦2468] ومختصرًا في «العلم» [خ¦89].


[1] في (م) و(ص): «للجادة».
[2] «قال»: ليست في (ص).
[3] في (م): «به».
[4] في (ص): «بسبب».
[5] في (د): «من طريقتهنَّ».
[6] في (ب) و(س): «رسول الله».
[7] في (ص): «ضرة».
[8] قوله: «ففزعت بكسر الزَّاي: خفت من شدَّة ضربه البابَ؛ إذ هو خلاف عادته» ليس في (ص).
[9] في (د): «هو أعظم».
[10] كذا في الأصول، والصَّواب: أنَّه في (سورة التَّحريم).
[11] «إلا»: ليست في (م).
[12] في (ص) و(د): «قد».
[13] «كالآتية»: ليست في (د).
[14] «قد»: ليست في (م) و(د).
[15] في (ص): «حصير».
[16] في (ص) و(د): «مما».
[17] «فيه»: ليست في (م).
[18] في (م): «والهمزة للاستفهام».
[19] «النبي»: ليست في (ص) و(س).
[20] في (م): «نظره».
[21] في (ص): «عجبًا».
[22] «به»: ليست في (م) و(د).
[23] في (ص): «الفرع».
[24] «قالت حفصة»، ليست في (ص).
[25] في (ص): «الهجرة».
[26] في (ب) و(س): «وأصله».
[27] وسبق مطولًا أيضًا فيها [خ¦ 4913].