إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: تحاجت الجنة والنار فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين

          4850- وبه قال: (حَدَّثَنَا) ولأبي ذرٍّ: ”حَدَّثني“ بالإفراد (عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) المسنديُّ قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن هَمَّام _بتشديد الميم وفتح الهاء_، قال: (أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ) هو: ابنُ راشدٍ (عَنْ هَمَّامٍ) بفتح الهاء(1) وتشديد(2) الميم الأولى، ابنِ منبِّه (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ ) أنَّه (قَالَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم : تَحَاجَّتِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ) تخاصَمَتا بلسانِ المقال(3) أو الحال (فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول، بمعنى: اختصَصتُ (بِالمُتَكَبِّرِينَ وَالمُتَجَبِّرِينَ) مترادفان لغةً، فالثَّاني تأكيدٌ لسابقه، أو المتكبِّرُ(4) المتعظِّمُ بما ليس فيه، والمتجبِّرُ(5) الممنوعُ الَّذي لا يوصلُ إليه، أو الَّذي لا يكترثُ بأمرِ ضعفاءِ النَّاسِ وسقطِهم (وَقَالَتِ الجَنَّةُ: مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ) الَّذين لا يلتفتُ إليهم لمسكنتِهِم (وَسَقَطُهُمْ) بفتحتين، المحتقرونَ(6) بين النَّاسِ السَّاقطونَ من(7) أعينهِم؛ لتواضُعهِم لربِّهم وذلَّتِهم(8) له (قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى) ولأبي ذرٍّ: ”╡“ (لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي) ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ: ”أنت رَحمة“ وسمَّاها رحمة؛ لأنَّ بها تظهرُ رحمته تعالى، كما قاله (أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي) وإلَّا فرحمةُ اللهِ من صفاتهِ الَّتي لم يزَل بها موصوفًا (وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابٌ) ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”عَذابِي“ (أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا) بالهاء في الفرع كأصله، وفي نسخة: ”منكُما“ (مِلْؤُهَا، فَأَمَّا النَّارُ فَلَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ) في مسلم: ”حتَّى يضعَ الله رجلهُ“، وأنكر ابن فُورك لفظ: «رجله» وقال: إنَّها غيرُ ثابتةٍ. وقال ابنُ الجوزيِّ: هي تحريفٌ من بعض الرُّواة، ورُدَّ عليهما برواية الصَّحيحين بها، وأوِّلت بالجماعةِ: كرجلٍ من جرادٍ، أي: يضعُ فيها جماعةً وأضَافهم إليه إضافةَ اختصاصٍ. وقال محيي السُّنَّة: القدمُ والرِّجلُ في هذا الحديث من صفاتِ الله تعالى المنزَّهَة عن التَّكييفِ والتَّشبيهِ، فالإيمانُ بها فرضٌ والامتناعُ عن الخوضِ فيها واجبٌ، فالمهتدِي من سلكَ فيها طريقَ التَّسليم، والخائضُ فيها زائغٌ، والمنكرُ معطِّلٌ، والمكيِّفٌ مشبِّهٌ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى:11] (فَتَقُولُ) النَّار إذا وضعَ رجلهُ فيها: (قَطٍْ قَطٍْ قَطٍْ) ثلاثًا بتنوينها مكسورة ومسكَّنة(9)، وعند أبي ذرٍّ مرتين فقط‼ كالرِّوايتين السَّابقتين (فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيُزْوَى) بضم أوَّله وفتح ثالثه (بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ) تجتمعُ وتلتقِي على من فيها، ولا ينشئُ الله لها خلقًا (وَلَا يَظْلِمُ اللهُ ╡ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا) لم يعملْ سوءًا، وللمعتزلةِ أن يقولوا: إنَّ نفي الظُّلمِ عمَّن لم يذنِب دليلٌ على أنَّه إن عذَّبهم كان ظلمًا(10) وهو عينُ مذهبنا. والجوابُ: إنَّا وإن قلنَا: إنَّه تعالى وإن عذَّبهم لم يكن ظَالمًا؛ فإنَّه(11) لم يتصرَّف في ملكِ غيره، لكنَّه تعالى لا يفعلُ ذلك لكرمهِ ولطفهِ مبالغةً، فنفيُ الظُّلمِ إثباتُ الكرم (وَأَمَّا الجَنَّةُ فَإِنَّ اللهَ ╡ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا) لم تعملْ خيرًا حتَّى تمتلئَ، فالثَّوابُ ليس موقوفًا على العملِ / ، وفي حديث أنس عند مسلم مرفوعًا: «يَبقَى من الجنَّةِ ما شاءَ اللهُ ثمَّ ينشئُ اللهُ لها خلقًا ممَّا يشاءُ»، وفي رواية له: «ولا يزَالُ في الجنَّةِ فضلٌ حتَّى ينشئَ اللهُ لها خلقًا فيسكنَهُم فضلَ الجنَّةِ».


[1] قوله: «بتشديد الميم وفتح الهاء قال: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ هو: ابنُ راشَدٍ عَنْ هَمَّامٍ بفتح الهاء»: ليست في (ص).
[2] في (ص): «بتشديد».
[3] في (ب): «القال».
[4] في (م): «التكبر».
[5] في (م): «التجبر».
[6] في (م): «المحقرون».
[7] في (م): «في».
[8] في (د): «وذلهم».
[9] في (د): «ومنونة».
[10] في (م) و(د): «لم يكن ظالمًا».
[11] في (ب): «فإن».