إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة

          4340- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ) هو ابنُ مسرهَدٍ قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ) بنُ زياد قال: (حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ) سليمانُ بنُ مهرانَ قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ) بسكون العين في الأول وضمها في الثاني مصغَّرًا، الكوفيُّ(1) (عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) عبدِ الله بنِ حبيبٍ السُّلميِّ (عَنْ عَلِيٍّ ☺ ) أنَّهُ (قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلعم سَرِيَّةً فَاسْتَعْمَلَ) ولأبي ذرٍّ ”واستعملَ“ «بالواو» بدل: «الفاء»، (عليها رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ) هو عبدُ الله بنُ حذافةَ(2) السَّهميُّ، فيما قاله ابنُ سعدٍ (وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ) أي: عليهم، ولمسلمٍ: «فأغضبوهُ في شيءٍ» (فَقَالَ) ولأبي ذرٍّ ”قالَ“: (أَلَيْسَ أَمَرَكُمُ النَّبِيُّ صلعم أَنْ تُطِيعُونِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا، فَجَمَعُوا) أي: الحطبَ (فَقَالَ: أَوْقِدُوا) بفتح الهمزة وكسر القاف (نَارًا فَأَوْقَدُوهَا، فَقَالَ: ادْخُلُوهَا) وفي رواية حفصِ بن غياثٍ في «الأحكامِ» [خ¦7145] «فقال: عزمتُ عليكُم لَمَا جمعتم حطبًا، وأوقدتُم نارًا، ثمَّ دخلتُم فيها» (فَهَمُّوا) بفتح الهاء وضم الميم المشددة، فسَّره البَرْماويُّ كالكِرْمانيِّ بقولهِ: حزِنُوا. قال العينيُّ: وليس كذلكَ، بل المعنى: فقصدوا، ويؤيدهُ رواية حفصٍ: «فلما همُّوا بالدُّخول فيها، فقاموا ينظرُ بعضهم إلى بعضٍ» (وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا، وَيَقُولُونَ: فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيِّ صلعم مِنَ النَّارِ، فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَـِدَتِ النَّارُ) بفتح الميم وتكسر، انطفأَ لهبها (فَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَبَلَغَ) ذلك (النَّبِيَّ صلعم فَقَالَ: لَوْ دَخَلُوهَا) أي: دخلوا(3) النَّار الَّتي أوقدَها، ظانِّينَ أنَّهم بسببِ طاعتهم أميرهم لا تضرُّهم (مَا خَرَجُوا مِنْهَا) لأنَّهم كانُوا يموتون فلم يخرجُوا منها (إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ) أو الضَّمير في قولهِ: «دخلوها»، للنَّار الَّتي أوقدَهَا. وفي قولهِ: «ما خرجوا منها» لنارِ الآخرةِ؛ لأنَّهم ارتكبوا ما نُهوا عنه من قتلِ أنفسِهم مستحلِّينَ له، على هذا ففيه نوعٌ من أنواعِ البديعِ، وهو الاستخدامُ. قاله ابن حجرٍ، وقال الكِرْمانيُّ وغيرهُ: والمرادُ بقولهِ: «إلى يوم القيامةِ»، التَّأبيد، يعني: لو دخلوهَا مستحلِّين. وقال الدَّاوديُّ: فيه أنَّ التَّأويلَ الفاسدَ لا يعذرُ به صاحبهُ (الطَّاعَةُ) للمخلوقِ (فِي) الأمرِ بـ (المَعْرُوفِ) شرعًا.
          وفي الحديث / : أنَّ الأمرَ المطلق لا يعمُّ جميع الأحوالِ؛ لأنَّه صلعم أمرهُم أن يطيعُوا الأميرَ، فحملوا ذلكَ على عمومِ الأحوالِ، حتَّى في حال الغضبِ، وفي حالِ الأمرِ بالمعصيةِ، فبيَّن لهم ╕ أنَّ الأمرَ بطاعتهِ مقصورٌ على ما كان منه في غير معصيةٍ. وقد ذكر ابنُ سعدٍ في «طبقاته»: أنَّ سببَ هذه السَّرية أنَّه بلغه صلعم أنَّ ناسًا من الحبشةِ تراءاهُم أهلُ جدَّةَ، فبعثَ إليهم علقمةُ بن مجزِّز في ربيعٍ الآخر‼ سنة تسعٍ، في ثلاث مئة، فانتهى بهم إلى جزيرةٍ في البحرِ، فلمَّا خاضَ البحرَ إليهم هربوا، فلمَّا رجعَ تعجَّل بعضُ القومِ إلى أهلِيهم، فأمَّرَ عبد الله بن حذافةَ على من تعجَّلَ. قال البَرْماويُّ: ولعلَّ هذا عذر البخاريِّ حيثُ جمعَ بينهما، مع أنَّه في الحديث لم يسمِّ واحدًا منهما، وترجمةُ البخاريِّ لعلَّها تفسير للمبهمِ الذي في الحديث.
          والحديثُ أخرجه أيضًا في «الأحكام» [خ¦7145] وفي «خبر الواحدِ» [خ¦7257]، ومسلمٌ في «المغازي»، وأبو داود في «الجهاد»، والنَّسائيُّ في «البيعة» و«السِّير».


[1] في (م) زيادة: «قلت: كذا ترجم، وأشار بأصلِ التَّرجمة إلى ما رواه أحمدُ وابنُ ماجه، وصحَّحه ابنُ خزيمةَ وابنُ حبَّان والحاكمُ من طريق عُمر بن الحكم، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ ☺ قال: بعثَ الرَّسول علقمةَ بن مُجَزِّز على بعثٍ أنا فيهم، حتَّى انتهينَا إلى رأسِ غَزَاتنا، أو كنَّا ببعضِ الطَّريق أذن لطائفةٍ من الجيش، وأمَّرَ عليهم عبدَ اللهِ بن حذافةَ السَّهميَّ، وكان من أصحابِ بدرٍ، وكانتْ فيه دعابةُ الحديث، وذكر ابنُ سعدٍ هذه القصَّة بنحو هذا السِّياق».
[2] في (ب): «رواحة».
[3] في (ص): «لو دخلوا».