إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار

          304- وبه قال: (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ) هو سعيد بن الحكم بن محمَّد بن سالمٍ المصريُّ الجمحيُّ (قَالَ: أَخْبَرَنَا) ولأبي الوقت وابن عساكر: ”حدَّثنا“ (مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) هو ابن أبي كثيرٍ الأنصاريُّ، أخو إسماعيل (قَالَ: أَخْبَرَنِي) بالإفراد (زَيْدٌ هُوَ ابْنُ أَسْلَمَ) المدنيُّ، وسقط«هو ابن أسلم» عند ابن عساكر والأَصيليِّ (عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) هو ابن أبي سرحٍ العامريِّ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ) ☺ (قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلعم ) من بيته أو مسجده (فِي) يوم (أَضْحًى) بفتح الهمزة وسكون الضَّاد، جمع: أَضْحَاةٍ، إحدى أربع لغاتٍ في اسمها، وأُضْحِيَةٌ بضمِّ الهمزة وكسرها، وضَحيَّةٌ بفتح الضَّاد وتشديد الياء، والأضحى تُذَكَّر وتُؤنَّث، وهو منصرفٌ، سُمِّيت بذلك لأنَّها تُفعَل في الضُّحى؛ وهوارتفاع النَّهار (أَوْ) في يوم (فِطْرٍ) شكٌ مِنَ الرَّاوي، أو من أبي سعيدٍ (إِلَى المُصَلَّى) فوعظ النَّاس وأمرهم بالصَّدقة فقال: «يا أيَّها النَّاس، تصدَّقوا» (فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ) المعشر: كلُّ جماعةٍ أمرُهم واحدٌ، وهو يَرُدُّ على ثعلبٍ حيث خصَّه بالرِّجال، إلَّا إن كان مراده بالتَّخصيص حالة إطلاق المعشر لا تقييده كما في الحديث (تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ) بضمِّ الهمزة وكسر الرَّاء، أي:في ليلة‼ الإسراء (أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ) نعم وقع في حديث ابن عبَّاسٍ الآتي _إن شاء الله تعالى_ في «صلاة الكسوف» [خ¦1052]: أنَّ الرُّؤية المذكورة وقعت في صلاة الكسوف، و«الفاء» في قوله: «فإنِّي» للتَّعليل، و«أكثرَ» بالنَّصب مفعول: «أُرِيتُكُنَّ» الثَّالث، أو على الحال إذا قلنابأنَّ «أفعل» لا يتعرَّف بالإضافة كما صار(1) إليه الفارسيُّ وغيره (فَقُلْنَ) ولأبى ذَرٍّ عنِ الحَمُّويي وأبي الوقت والأَصيليِّ وابن عساكر: ”قلن“ (وَبِمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟) / قال ابن حجرٍ: «الواو» استئنافيَّةٌ، و«الباء» تعليليَّةٌ، و«الميم» أصلها «ما» الاستفهاميَّة، فحُذِفت منها الألف تخفيفًا، وقال العينيُّ: الواو للعطف على مُقدَّرٍ تقديره: ما ذنبنا؟ و«بِمَ»: «الباء» سببيَّةٌ(2)، وكلمة «ما» استفهاميَّةٌ، فإذا جُرَّت «ما» الاستفهاميَّة، وجب حذف ألفها وإبقاء الفتحة دليلًا عليها، نحو:إلامَ وعلامَ، وعلَّة حذف الألف الفرق بين الاستفهام والخبر نحو: {فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا}[النازعات:43] وأمَّا قراءة عكرمة نحو: ▬عمَّا يتساءلون↨ فنادرٌ (قَالَ) صلعم : «لأنَّكنَّ» (تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ) المُتَّفَق على تحريم الدعاء به على من لا تعرف خاتمة أمرِه بالقطع، أمَّا من عُرِف خاتمة أمره بنصٍّ، فيجوز كأبي جهلٍ. نعم لَعْنُ صاحبِ وصفٍ بلا تعيينٍ كالظَّالمين والكافرين جائزٌ (وَتَكْفُرْنَ العَشِيرَ) أي: تجحدن نعمة الزَّوج وتستقللن ما كان منه، والخطاب عامٌّ غلبت فيه الحاضرات على الغُيَّب، واستُنبِط من التَّوعُّد بالنَّارعلى كفران العشير وكثرة اللَّعن أنَّهما من الكبائر، ثمَّ قال ╕ : (مَا رَأَيْتُ) أحدًا (مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ) «أذهب»: من «الإذهاب» على مذهب سيبويه حيث جوَّز بناء «أفعل» التَّفضيل مِنَ الثُّلاثيِّ المزيد فيه، وكان القياس فيه «أشدَّ إذهابًا»، و«اللُّبُّ» _بضمِّ اللَّام وتشديد المُوحَّدة_: العقل الخالص من الشَّوائب، فهو خالص ما في الإنسان من قواه، فكلُّ لبٍّ عقلٌ، وليس كلُّ عقلٍ لبًّا، و«الحازم» _بالحاء المُهمَلة والزَّايِ_ أي: الضَّابط لأمره، وهو على سبيل المُبالَغة في وصفهنَّ بذلك لأنَّه إذا كان الضَّابط لأمره(3) ينقاد لهنَّ، فغيره أَوْلى (قُلْنَ) مستفهماتٍ(4) عن وجه نقصان دينهنَّ وعقلهنَّ لخفائه عليهنَّ: (وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ) صلعم مجيبًا لهنَّ بلطفٍ وإرشادٍ من غير تعنيفٍ(5) ولا لومٍ: (أَلَيْسَ شَهَادَةُ المَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟ قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: فَذَلِكَِ(6) مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا) بكسر الكاف؛ خطابًا للواحدة التي تولَّت خطابه ◙ ، فإن قلت: إنَّما هو خطابٌ للإناث والمعهود فيه: فذلكنَّ، أُجيببأنَّه قد عُهِدَ في خطاب المُذكَّر الاستغناء بـ «ذلك» عن «ذلكم» قال تعالى: {فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ }[البقرة:85] فهذا مثله في المُؤنَّث، على أنَّ بعض النُّحاة نقل لغةً بأنَّه يُكتفَى بكافٍ مكسورةٍ مُفرَدةٍ لكلِّ مُؤنَّثٍ، أو الخطاب لغير مُعيَّنٍ مِنَ النِّساء ليعمَّ الخطاب كلًّا منهنَّ على سبيل البدل، إشارةً إلى أن حالتهنَّ في النَّقص تناهت في الظُّهور إلى حيث يمتنع خفاؤها، فلا تختصُّ(7) به واحدةٌ دون أخرى، فلا تختصُّ حينئذٍ بهذا الخطاب مُخاطَبةٌ دون مُخاطَبةٍ، قاله في «المصابيح»، ويجوز فتح الكاف على أنَّه للخطاب العامِّ. واستُنبِط من ذلك‼: أن لا يواجه بذلك الشَّخص المُعيَّن، فإنَّ في الشُّمول تسليةً وتسهيلًا، وأشار بقوله: «مثل نصف شهادة الرَّجل» إلى قوله تعالى:{فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء}[البقرة:282] لأنَّ الاستظهار بأخرى يُؤذِن(8) بقلَّة ضبطها، وهو يشعر بنقص عقلها.
           ثم قال ◙ : (أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟) أي: لِمَا قام بها من مانع الحيض (قُلْنَ: بَلَى، قَالَ) ╕ : (فَذَلِكَِ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا) بكسر الكاف وفتحها كالسَّابق، قِيلَ: وهذا العموم فيهنَّ يعارضه حديث: «كمل من الرِّجال كثيرٌ ولم يكمل مِنَ النِّساء إلَّا مريم ابنة عمران وآسية بنت مزاحمٍ»، وفي رواية التِّرمذيِّ وأحمد: «أربعٌ: مريم ابنة عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلدٍ، وفاطمة بنت محمَّدٍ»، وأُجِيببأنَّ الحكم على الكلِّ بشيءٍ لا يستلزم الحكم على كلِّ فردٍ من أفراده بذلك الشيء، فإن قلت: لِمَ خصَّ بالذِّكر في التَّرجمة الصَّوم دون الصَّلاة وهما مذكوران في الحديث؟ أُجيببأنَّ تركها للصَّلاة واضحٌ لافتقارها إلى الطَّهارة بخلاف الصَّوم، فتركها له مع الحيض تعبُّدٌ محضٌ، فاحتِيج إلى التَّنصيص عليه بخلاف الصَّلاة، وليس المُراد بذكر نقص العقل والدِّين في النِّساء لومَهنَّ عليه؛ لأنَّه من أصل الخلقة، ولكن التَّنبيه على ذلك تحذيرًا من الافتتان بهنَّ، ولهذا رتَّب العذاب على ما ذكر من الكفران وغيره لا على النَّقص؛ وليس نقص الدِّين منحصرًا فيما يحصل من الإثم، بل في أعمَّ من ذلك، قاله النَّوويُّ؛ لأنَّه أمرٌ نسبيٌّ، فالكامل مثلًا ناقصٌ عن الأكمل، ومن ذلك: الحائض لا تأثم بترك الصَّلاة زمن الحيض، لكنَّها ناقصةٌ عنِ المصلِّي / ، وهل تُثاب على هذا التَّرك لكونها مُكلَّفة به كما يُثاب المريض على ترك(9) النَّوافل التي كان يفعلها في صحَّته وشُغِل عنها بمرضه؟ قال النَّوويُّ: الظَّاهر لا؛ لأنَّ ظاهر الحديث أنَّها لا تُثاب لأنَّه ينوي أنَّه يفعل لو كان سالمًا مع أهليَّته وهي ليست بأهلٍ، ولا يمكن أن تنويَ؛ لأنَّها حرامٌ عليها.
          ورواة هذا الحديث الخمسة كلُّهم مدنيُّون إلَّا ابن أبي مريم فمصريٌّ(10)، وفيه: التَّحديث بصيغة الجمع والإخبار بالإفراد وبالجمع أيضًا(11)والعنعنة، ورواية تابعيٍّ عن تابعيٍّ عن صحابيٍّ، وأخرجه المؤلِّف في «الطَّهارة»، و«الصَّوم»(12)[خ¦1951]و«الزَّكاة» [خ¦1462] مُقطعًا، وفي «العيدين» [خ¦964] بطوله(13)، ومسلمٌ في «الإيمان»، والنَّسائيُّ في «الصَّلاة»، وابن ماجه، والله أعلم.


[1] في (ص): «أشار».
[2] في (م): «للسَّببيَّة».
[3] قوله:«وهو على سبيل المُبالَغة في وصفهنَّ بذلك؛ لأنَّه إذا كان الضَّابط لأمره» سقط من (ص) و(م).
[4] في غير (ب) و(س): «مستفهمين».
[5] في (ج): «تعسف».
[6] في (د): «ذلك».
[7] في (م): «يختصُّ».
[8] في (ص) و(ج): «يؤدِّي».
[9] «ترك»: مثبتٌ من (ص) و(م).
[10] في (د): «فبصريٌّ»، وهو تحريفٌ.
[11] «وبالجمع أيضًا»: مثبتٌ من (ص).
[12] زيد في (ب) و(د): «والصَّلاة»، ولم أقف عليه فيه.
[13] هو في «الزَّكاة» بطوله، وفي «العيدين» مقطَّعٌ.