إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عدلًا

          3448- وبه قال: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) بن رَاهُوْيَه قال: (أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) الزُّهريُّ قال: (حَدَّثَنَا أَبِي) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرَّحمن بن عوفٍ (عَنْ صَالِحٍ) هو(1) ابن كيسان (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمَّد بن مسلمٍ الزُّهريِّ (أَنَّ سَعِيدَ‼ بْنَ المُسَيَّبِ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ ☺ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : وَ) الله (الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) بقدرته وتصريفه، قال في «فتح الباري»: فيه الحلف في الخبر، مبالغةً في تأكيده / (لَيُوشِكَنَّ) بكسر المعجمة وفتح الكاف، ليقرُبنَّ سريعًا (أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا) عند مسلمٍ من طريق اللَّيث عن ابن شهابٍ: «وحكمًا مقسطًا» أي: حاكمًا عادلًا يحكم بهذه الشَّريعة المحمَّديَّة، ولا يحكم بشريعته الَّتي أُنزِلت عليه في أوان رسالته (فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ) الفاء تفصيليَّةٌ لقوله: «حكمًا عدلًا» (وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ) أي: يبطل دين النَّصرانيَّة بكسر الصَّليب حقيقةً، أو يبطل ما تزعمه النَّصارى من تعظيمه. واستدلَّ به على تحريم اقتناء الخنزير وأكله ونجاسته، لأنَّ الشَّيء المنتفَع به لا يجوز إتلافه، لكن في «الطَّبرانيِّ الأوسط» من طريق أبي صالحٍ عن أبي هريرة: «فيكسر الصَّليب، ويقتل الخنزير والقرد» وإسناده لا بأس به. وحينئذٍ فلا يصحُّ الاستدلال به على نجاسة عين الخنزير، لأنَّ القرد ليس بنجسٍ اتِّفاقًا (وَيَضَعَ الجِزْيَةَ) عن أهل الكتاب، لأنَّه لا يقبل إلَّا الإسلام، ولعدم احتياج النَّاس إلى(2) المال لِمَا تلقيه الأرض من بركاتها كما قال: (وَيَفِيضَ المَالُ) بفتح الياء، يكثر (حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ) وليس عيسى بناسخ لحكم(3) الجزية بل نبيُّنا محمَّدٌ صلعم ، هو المبيِّن للنَّسخ بهذا، فعدم قبولها هو من هذه الشَّريعة، لكنَّه مقيَّدٌ بنزول عيسى. ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”ويضع الحَرْبَ“ بالحاء المهملة والرَّاء السَّاكنة والموحَّدة بدل «الجزية» (حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الوَاحِدَةُ خَيْرٌ) بالرَّفع، ولأبي ذرٍّ والأَصيليِّ(4): ”خيرًا“ بالنَّصب خبر «كان» (مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) و«حتَّى» الأولى متعلِّقةٌ بقوله: «ويفيض(5) المال»، والثَّانية غايةٌ لمفهوم قوله: «فيكسر الصَّليب...» إلى آخره، والمعنى: أنَّهم لا يتقرَّبون إلى الله بالتَّصدُّق بالمال بل بالعبادة، لكثرة المال إذ ذاك وعدم الانتفاع به، وإلَّا فمعلومٌ أنَّ السَّجدة الواحدة دائمًا خيرٌ من الدُّنيا وما فيها.
          (ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ) بالإسناد السَّابق، مستدلًّا على نزول عيسى في آخر الزَّمان تصديقًا للحديث: (وَاقْرَؤُوْا إِنْ شِئْتُمْ: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ}) بعيسى ({قَبْلَ مَوْتِهِ}) أي: وإن من أهل الكتاب أحدٌ إلَّا ليؤمننَّ بعيسى قبل موت عيسى، وهم أهل الكتاب الَّذين يكونون في زمانه، فتكون الملَّة واحدةً، وهي ملَّة الإسلام. وبهذا جزم ابن عبَّاسٍ فيما رواه ابن جريرٍ من طريق سعيد بن جُبَيرٍ عنه بإسنادٍ صحيحٍ‼. وقيل: المعنى: ليس من أهل الكتاب أحدٌ يحضره الموت إلَّا آمن عند المعاينة قبل خروج روحه بعيسى، وأنَّه عبدُ اللهِ وابنُ أَمَته، ولكن لا ينفعه الإيمان في تلك الحالة. وظاهر القرآن عمومه في كلِّ كتابيٍّ _يهوديٍّ أو نصرانيٍّ_ في زمن نزول عيسى وقبله. فإن قلت: ما الحكمة في نزول عيسى(6) دون غيره من الأنبياء؟ أُجيب للرَّدِّ على اليهود؛ حيث زعموا أنَّهم قتلوه، فبيَّن الله تعالى كذبهم وأنَّه الَّذي يقتلهم ({وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا}[النساء:159]) أنَّه قد بلَّغهم رسالة ربِّه، ومقرًّا بالعبوديَّة على نفسه، وكلُّ نبيٍّ شاهدٌ على أمَّته.


[1] «هو»: ليس في (د).
[2] في (د): «ولعدم الاحتياج إلى».
[3] في (د): «حكم».
[4] في (د): «بالرَّفع وللأصيليِّ».
[5] في (د): متعلِّقةٌ بـ «يفيض».
[6] «عيسى»: ليس في (د).