إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: نحن أحق من إبراهيم إذ قال: {رب أرني كيف تحيي الموتى}

          3372- وبه قال: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ) المصريُّ قال: (حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله المصريُّ (قَالَ(1): أَخْبَرَنِي) بالإفراد (يُونُسُ) بن يزيد الأيليُّ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمَّد بن مسلمٍ الزُّهريِّ (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوفٍ (وَسَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ) كلاهما (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ) على سبيل التَّواضع: (نَحْنُ أَحَقُّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ) ولأبي ذرٍّ عن الكُشْميهَنيِّ: ”نحن أحقُّ بالشَّكِّ من إبراهيم“ (إِذْ قَالَ) لمَّا رأى جيفةَ حمارٍ مطروحة‼ على شطِّ البحر، فإذا مدَّ البحر أكل دوابُّ البحر منها، وإذا جزر البحر جاءت السِّباع فأكلت، وإذا ذهبت السِّباع(2) جاءت الطُّيور فأكلت وطارت: ({رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى}) أي: كيف تجمع أجزاء الحيوان من بطون السِّباع والطُّيور ودوابِّ البحر، أو لمَّا ناظر نمروذ(3) حين قال: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ}[البقرة:258] وقال الملعون: {أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ} وأَطْلَقَ محبوسًا وقتل رجلًا. فقال إبراهيم ◙ : إنَّ إحياء الله تعالى بردِّ الرُّوح إلى بدنها. فقال نمروذ: فهل عاينته؟ فلم يقدر أن يقول: نعم، وانتقل إلى تقريرٍ آخر، فقال له نمروذ _لعنه الله(4)_: قل لربِّك حتَّى يحيي وإلَّا قتلتك، فسأل الله تعالى ذلك، وقيل: إنَّ الله تعالى لمَّا أوحى إليه: أنِّي متَّخذٌ بشرًا خليلًا، فاستعظم إبراهيم ◙ ذلك فقال: إلهي ما علامة ذلك؟ قال: إنَّه يحيي الموتى بدعائه، فلمَّا عظم مقام إبراهيم في العبوديَّة، خطر بباله أنَّه الخليل، فسأل إحياء الموتى(5) ({قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن}) بأنِّي قادرٌ على جمع الأجزاء المتفرِّقة، أو على الإحياء(6) بإعادة التَّركيب والرُّوح إلى الجسد ({قَالَ بَلَى}) آمنت ({وَلَـكِن}) سألت ({لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}[البقرة:260]) ليحصل الفرق بين المعلوم بالبرهان والمعلوم عيانًا، أو ليطمئنَّ قلبي بقوَّة حجَّتي، وإذا قيل(7) لي(8): أنت عاينت؟ أقول: نعم. أو ليطمئنَّ قلبي بأنِّي خليلٌ لك، فظهر أنَّ سؤال إبراهيم لم يكن شكًّا، بل من قبيل(9) زيادة العلم بالعيان، فإنَّ العيان يفيد من المعرفة والطَّمأنينة ما لا يفيده الاستدلال. وعن الشَّافعيِّ في معنى الحديث: الشَّكُّ يستحيل في حقِّ إبراهيم ◙ ، ولو كان الشَّكُّ متطرِّقًا إلى الأنبياء ╫ لكنتُ الأحقَّ به من إبراهيم، وقد علمتم أنَّ إبراهيم لم يشكَّ، فإذا لم أشكَّ / أنا ولم أَرْتَب في القدرة على الإحياء فإبراهيم أَولى بذلك، وقال الزَّركشيُّ: وذكر صاحب «الأمثال السَّائرة»: أنَّ «أفعل» تأتي في اللُّغة لنفي المعنى عن الشَّيئين، نحو: الشَّيطان خيرٌ من زيدٍ، أي: لا خير فيهما، وكقوله تعالى: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ}[الدخان:37] أي: لا خير في الفريقين، وعلى هذا فمعنى قوله: «نحن أحقُّ بالشَّكِّ من إبراهيم» لا شكَّ عندنا جميعًا، قال: وهو أحسن ما يتخرَّج عليه هذا الحديث. انتهى. وكذا نقله في «الفتح»، لكن عن بعض علماء العربيَّة، قال في «المصابيح»: وهذا غير معروفٍ عند المحقِّقين.
          (وَيَرْحَمُ اللهُ لُوطًا) اسمٌ أعجميٌّ، وصُرِف مع العجمة والعلميَّة، لسكون وسطه (لَقَدْ كَانَ يَأْوِي) في الشَّدائد (إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) إلى الله تعالى. وقال مجاهدٌ: إلى العشيرة، ولعلَّه يريد: لو أراد لأوى إليها، ولكنَّه أوى إلى الله تعالى، وقال أبو هريرة: ما بعث الله نبيًّا إلَّا في مَنَعَةٍ من عشيرته (وَلَو لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفُ) بضع سنين _ما بين الثَّلاث إلى التِّسع_ (لأَجَبْتُ الدَّاعِيَ) لأسرعت الإجابة في الخروج من السِّجن، ولَمَا قدَّمتُ طلب‼ البراءة. قال محيي السُّنَّة: وصف صلعم يوسف بالأناة والصَّبر حيث لم يبادر إلى الخروج حين جاءه(10) رسول الملك فِعْلَ المذنب حين يُعفَى عنه مع طول لبثه في السِّجن، بل قال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}[يوسف:50] أراد أن يقيم الحجَّة في حبسهم إيَّاه ظلمًا، فقال صلعم على سبيل التَّواضع، لا أنَّه ╕ كان في الأمر منه مبادرةٌ وعجلةٌ لو كان مكان يوسف، والتَّواضع لا يصغِّر كبيرًا ولا يضع رفيعًا، ولا يبطل لذي حقٍّ حقًّا، لكنَّه يوجب لصاحبه فضلًا، ويكسبه إجلالًا وقدرًا. انتهى. وهذا الحديث أخرجه أيضًا في «التَّفسير» [خ¦4537]، ومسلمٌ في «الإيمان» وفي «الفضائل»، وابن ماجه في «الفتن».


[1] «قال»: سقط من (د).
[2] «السِّباع»: مثبتٌ من (د) و(س).
[3] في (د) و(ل): «نمرود»، وكذا في المواضع اللَّاحقة.
[4] «لعنه الله»: ليس في (د).
[5] في (د): «الميت».
[6] «المتفرقة أو على الإحياء»: ليس في (د).
[7] في (د): «قال»، وفي نسخة كالمثبت.
[8] «لي»: ليس في (د).
[9] في (د): «قبل».
[10] في (د) و(ص): «جاء».