إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: المدينة حرام ما بين عائر إلى كذا فمن أحدث حدثًا

          3179- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ) بالمُثلَّثة العبديُّ البصريُّ قال: (أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ) الثَّوريُّ (عَنِ الأَعْمَشِ) سليمان (عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ) يزيد بن شريكٍ التَّيميِّ (عَنْ عَلِيٍّ ☺ ) أنَّه (قَالَ: مَا كَتَبْنَا عَنِ النَّبِيِّ صلعم إِلَّا القُرْآنَ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ) فإن قلتَ: إنَّ «ما» و«إلَّا» يفيدان الحصر عند علماء المعاني، فيفيد التَّركيب أنَّ عليًّا ☺ ما كتب شيئًا غير القرآن وما في هذه الصَّحيفة. فالجواب(1): بأنَّ(2) في «مُسنَد الإمام أحمد»: أنَّ عليًّا قال: «ما عهد إليَّ رسول الله صلعم شيئًا خاصَّةً دون النَّاس إلَّا شيئًا سمعته منه فهو في صحيفتي في قراب سيفي، قال: فلم يزالوا به حتَّى أخرج الصَّحيفة» (قَالَ النَّبِيُّ صلعم : المَدِينَةُ حَرَامٌ) كحرم(3) مكَّة، لا يحلُّ صيدها ونحو ذلك (مَا بَيْنَ عَائِرٍ) بالمدِّ: جبلٍ معروفٍ (إِلَى كَذَا) وفي روايةٍ: «ما بين عيرٍ وثورٍ» وفي أخرى: «ما(4) بين عيرٍ وأُحُدٍ» ورُجِّحت هذه بأنَّ أُحُدًا بالمدينة وثورًا بمكَّة بل صرَّح بعضهم بتغليط الرَّاوي(5)، وحمله بعضهم على أنَّ المراد: أنَّه حرَّم من المدينة قدر ما بين عيرٍ وثورٍ من مكَّة، أو حرَّم المدينة تحريمًا مثل تحريم ما بين عيرٍ وثورٍ بمكَّة، على حذف مضافٍ (فَمَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا) منكرًا ليس بمعروفٍ (أَو آوَى مُحْدَِثًا) بهمزةٍ ممدودةٍ، و«محدِثًا» بكسر الدَّال، أي: نصر خائنًا(6) وآواه وأجاره من خصمه، وحال بينه وبين أن يُقتَصَّ منه، ويجوز فتح الدَّال، وهو الأمرُ المُبتدَع نفسُه، ويكون معنى الإيواء الرِّضا به والصَّبر عليه، فإذا رضي بالبدعة وأقرَّ فاعلها ولم ينكرها فقد آواه (فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ عَدْلٌ وَلَا صَرْفٌ) فريضةٌ ولا نفلٌ، أو شفاعةٌ ولا فديةٌ (وَذِمَّةُ المُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ) أي: عهدهم؛ لأنَّها يُذَمُّ متعاطيها على إضاعتها‼ (يَسْعَى بِهَا) أي: يتولَّاها ويذهب بها (أَدْنَاهُمْ) أي: أقلُّهم عددًا، فإذا أمَّن أحدٌ من المسلمين كافرًا وأعطاه ذمَّته لم يكن لأحدٍ نقضه (فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا) بهمزةٍ مفتوحةٍ فخاءٍ ساكنةٍ مُعجَمةٍ(7)، يُقال: خفرت الرَّجل: أَجَرْته وحفظته، وأخفرتُ الرَّجل، إذا نقضتَ عهده وذمامه، والهمزة فيه(8) للإزالة، أي: أزلت خفارته، كأشكيته إذا أزلت شكواه (فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ، وَمَنْ وَالَى قَوْمًا) أي: اتَّخذهم(9) أولياء (بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ) ظاهره يُوهم أنَّه شرطٌ، وليس شرطًا، لأنَّه لا يجوز له إذا أذنوا له(10) أن يواليَ غيرهم، إنَّما هو بمعنى التَّوكيد لتحريمه، والتَّنبيه على بطلانه، والإرشاد إلى السَّبب فيه، لأنَّه إذا استأذن أولياءه في مُوالَاة غيرهم منعوه، والمعنى: إن سولَّت له نفسه ذلك فليستأذنهم، فإنَّهم يمنعونه (فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ(11) مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ).
          وهذا الحديث مرَّ في «باب ذمَّة المسلمين وجوارهم» [خ¦3172] والغرض منه هنا _كما قال ابن حجرٍ_: «فمن أخفر مسلمًا» أي: نقض عهده كما مرَّ، وقال العينيُّ: يمكن أن تُؤخَذ المُطابَقة من قوله: «فمن أحدث حدثًا...» إلى آخره، لأنَّ(12) في إحداث الحَدَثِ وإيواء المُحدِث والموالاة بغير إذن مواليه معنى الغدر، فلذا(13) استحقَّ هؤلاء اللَّعنة. انتهى.


[1] في غير (ب) و(س): «والجواب».
[2] في غير (د) و(د1) و(م): «أنَّ»، وزيد في (ص): «ما».
[3] في (ص): «كحرمة».
[4] «ما»: مثبتٌ من (م).
[5] نبَّه العلامة الهوريني ☼ بهامش الطبعة البولاقية إلى أنَّ الذي في القاموس أن حذاء أُحُدٍ جانحًا إلى ورائه جبلًا صغيرًا يقال له ثور، وغلط من ادّعى التصحيف في الحديث فانظره. وقد تبعه العلامة الشرقاوي في شرح الزبيدي.
[6] في غير (د) و(م): «جانيًا».
[7] «معجمة»: ليس في (د).
[8] في (د): «منه».
[9] في (ص): «اتَّخذ».
[10] «له»: ليس في (م).
[11] زيد في (م): اسم الجلالة.
[12] في (م): «فإنَّ».
[13] في (ص): «فلهذا».