إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث ابن عمر: إن يكنه فلن تسلط عليه وإن لم يكنه

          3055- 3056- 3057- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) المسنَديُّ قال: (حَدَّثَنَا هِشَامٌ) هو ابن يوسف الصَّنعانيُّ قال: (أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ) بسكون العين وفتح الميمَين ابن راشدٍ (عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمَّد بن مسلم ابن شهابٍ أنَّه قال: (أَخْبَرَنِي) بالإفراد (سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ) أبيه ( ☻ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ) أباه (عُمَرَ انْطَلَقَ فِي رَهْطٍ) دون العشرة أو إلى الأربعين (مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلعم مَعَ النَّبِيِّ صلعم قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ) بكسر القاف وفتح الموحَّدة، أي: جهته، وكان غلامًا من اليهود، وكان يتكهَّن أحيانًا فيصدق ويكذب، فشاع حديثه وتُحدِّث أنَّه الدَّجَّال، وأشكل أمره، فأراد النَّبيُّ صلعم أن يختبر حاله، إذ لم ينزل في أمره وحيٌ، ولأبوي ذَرٍّ والوقت والأَصيليِّ: ”ابن الصَّيَّاد“ بالتَّعريف (حَتَّى وَجَدُوهُ) ولأبي ذَرٍّ: ”وجده“ بالتَّوحيد حال كونه (يَلْعَبُ مَعَ الغِلْمَانِ عِنْدَ أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ) بضمِّ الهمزة والطَّاء من «أُطُم» وهو البناء المرتفع، و«مَغَالَة»: بفتح الميم والغين المعجمة واللام: بطنٌ من الأنصار، أو حيٌّ من قضاعة (وَقَدْ قَارَبَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ صَيَّادٍ(1) يَحْتَلِمُ، فَلَمْ يَشْعُرْ) أي: ابن صيَّادٍ (حَتَّى) ولأبي ذَرٍّ عن الكُشْمِيهَنِيِّ: ”بشيءٍ حتَّى“ (ضَرَبَ النَّبِيُّ صلعم ظَهْرَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلعم : أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟ فَنَظَرَ إِلَيْهِ) صلعم (ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الأُمِّيِّينَ) أي: العرب (فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِلنَّبِيِّ صلعم : أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ(2) لَهُ النَّبِيُّ صلعم : آمَنْتُ بِاللهِ وَرُسُلِهِ) بالجمع، ولأبي ذَرٍّ عن المُستملي والكُشْمِيهَنِيِّ(3): ”ورسوله“ بالإفراد كذا في الفرع وأصله، ونسبَ ابن حجرٍ الإفراد للمُستملي. وقال الكِرمانيُّ: فإن قلت: كيف طابق قوله: «آمنت بالله ورسله» جواب الاستفهام؟ وأجاب: بأنَّه لمَّا أراد أن يُظهِرَ للقوم حاله أرخى العنان، حتَّى يبيِّنه عند المغترِّ به فلهذا قال آخرًا: «اخسأْ». انتهى. وقيل: يحتمل أنَّه‼ أراد باستنطاقه إظهار كذبه المنافي لدعوى النُّبوَّة، ولمَّا كان ذلك هو المراد أجابه بجواب منصفٍ فقال: «آمنت بالله ورسله»(4). ثمَّ(5) (قَالَ النَّبِيُّ صلعم ) له: (مَاذَا تَرَى؟ قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ) وعند التِّرمذيِّ من حديث أبي سعيدٍ: قال: أرى عرشًا فوق الماء. قال النَّبيُّ صلعم : «ترى عرش إبليس فوق البحر». قال: «ما ترى؟» قال: أرى صادقًا وكاذبين، أو صادقين وكاذبًا (قَالَ النَّبِيُّ صلعم : خُلِطَ عَلَيْكَ الأَمْرُ) بضمِّ الخاء المعجمة وكسر اللَّام مخفَّفةً في الفرع وأصله مصحَّحًا عليها، ومشدَّدةً في غيرهما، أي: خُلِطَ عليك الحقُّ والباطل على عادة الكهَّان (قَالَ النَّبِيُّ صلعم : إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا) بفتح الخاء المعجمة وكسر الموحَّدة وسكون التَّحتيَّة وبالهمز فيه وفي السَّابق، أي: أضمرت لك في نفسي شيئًا. وفي التِّرمذيِّ: أنَّه خبأ له: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ}[الدخان:10] (قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: هُوَ الدُّخُّ) بضمِّ الدَّال المهملة، وبعدها خاءٌ معجمةٌ، فأدرك البعض على عادة الكهَّان في اختطاف بعض الشَّيء من الشَّياطين من غير وقوفٍ على تمام البيان. فإن قلت: كيف اطَّلع ابن صيَّادٍ أو شيطانه على ما في الضَّمير؟ أُجيبَ: باحتمال أن يكون النَّبيُّ صلعم تحدَّث مع نفسه أو أصحابه بذلك فاسترق الشَّيطان ذلك أو بعضه. فإن قلت: فما وجه التَّخصيص بإخفاء هذه الآية؟ أجاب أبو موسى المدينيُّ: بأنَّه أشار بذلك إلى أنَّ عيسى ابن مريم ◙ يقتل الدَّجَّال بجبل الدُّخان، فأراد التَّعريض لابن صيَّادٍ بذلك. وحكى الخطَّابيُّ: أنَّ الآية كانت حينئذٍ مكتوبةً في يد النَّبيِّ صلعم ، فلم يهتدِ ابن صيَّادٍ منها إلَّا لهذا القدر النَّاقص / على طريق الكهنة، ولهذا (قَالَ النَّبِيُّ صلعم : اخْسَأْ) بالخاء المعجمة السَّاكنة وفتح السِّين المهملة، آخره همزٌ، كلمة زجرٍ واستهانةٍ، أي: اسكتْ متباعدًا ذليلًا (فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ) أي: لن تتجاوز القدر الَّذي يدركه الكهَّان من الاهتداء إلى بعض الشَّيء، ولا يُتجاوز(6) منه إلى النُّبوَّة، قال الكِرمانيُّ: وفي بعضها: ”تعدُ“ بغير واوٍ على أنَّه مجزومٌ بـ «لن» في لغةٍ حكاها الكسائيُّ، كما ذكره ابن مالكٍ في «توضيحه» (قَالَ عُمَرُ) ☺ (يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي فِيهِ) أي: في ابن صيَّادٍ (أَضْرِبْ عُنُقَهُ) بهمزة قطعٍ مجزومًا جواب الطَّلب (قَالَ النَّبِيُّ صلعم : إِنْ يَكُنْهُ) فيه اتِّصالُ الضَّمير إذا وقع خبرًا لـ «كان»، واسمها مستترٌ فيها(7)، وابن مالكٍ في «ألفيَّته» يختاره على الانفصال، عكس ما اختاره ابن الحاجب‼، وللأَصيليِّ وابن عساكرٍ وأبوي الوقت وذَرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”إن يكنْ“ هو بانفصال الضَّمير كالآتية وهو الصَّحيح، واختاره ابن مالكٍ في «التَّسهيل» و«شرحه» تبعًا لسيبويهِ، ولفظ «هو» تأكيدٌ للضَّمير المستتر، و«كان»: تامَّةٌ، أو وضع «هو» موضع: إيَّاه، أي: إن يكن إيَّاه. وفي حديث ابن مسعودٍ عند أحمد: «إن يكن هو الَّذي تخاف فلن تستطيعه»، وعند الحارث بن أبي أسامة عن جدِّه(8) مرسلًا: «إن يكن هو الدَّجَّال» (فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ) لأنَّ عيسى هو الَّذي يقتله، وفي حديث جابرٍ عند التِّرمذيِّ: «فلست بصاحبه إنَّما صاحبه عيسى ابن مريم» (وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ(9) فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ) قال الخطَّابيُّ: وإنمَّا لم يأذن النَّبيُّ صلعم في قتله مع ادِّعائه النُّبوَّة بحضرته؛ لأنَّه كان غير بالغٍ، أو لأنَّه كان من جملة أهل المهادنة. قال في «الفتح»: والثَّاني هو المتعيّن، وقد جاء مصرَّحًا به في حديث جابرٍ عند أحمد، وفي مرسل عروة: «فلا يحلُّ لك قتله» ولم يصرِّح ابن صيَّادٍ بدعوى النُّبوَّة، وإنَّما أوهم أنَّه يدَّعي الرِّسالة، ولا يلزم من دعواها دعوى النُّبوَّة، قال الله تعالى: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ}[مريم:83].
          وبالسَّند السَّابق: (قَالَ ابْنُ عُمَرَ) ☻ : (انْطَلَقَ النَّبِيُّ صلعم وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ) معه حال كونهما (يَأْتِيَانِ النَّخْلَ الَّذِي فِيهِ ابْنُ صَيَّادٍ حَتَّى إِذَا دَخَلَ) ╕ (النَّخْلَ طَفِقَ) أي: جعل (النَّبِيُّ صلعم يَتَّقِي) أي: يستتر (بِجُذُوعِ النَّخْلِ) بالذَّال المعجمة: أصولها (وَهْوَ يَخْتِلُ) بفتح المثنَّاة(10) التَّحتيَّة وسكون الخاء المعجمة وكسر الفوقيَّة، أي: يسمع(11) في خفيةٍ(12) (أَنْ يَسْمَعَ مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا) وفي حديث جابرٍ: رجاء أن يسمع من كلامه شيئًا ليعلم أنَّه صادقٌ أم(13) كاذبٌ (قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ) أي: ابن صيَّادٍ، كما في «الجنائز» [خ¦1355] (وَابْنُ صَيَّادٍ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ فِي قَطِيفَةٍ) أي: كساء له خملٌ (لَهُ) أي: لابن صيَّادٍ (فِيهَا) أي: في القطيفة (رَمْزَةٌ) براءٍ مهملةٍ مفتوحةٍ فميمٍ ساكنةٍ فزايٍ معجمةٍ، أي: صوتٌ خفيٌّ (فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ النَّبِيَّ صلعم وَهُوَ) أي: والحال أنَّه ╕ (يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ، فَقَالَتْ لاِبْنِ صَيَّادٍ: أَيْ صَافِ) بصادٍ مهملةٍ وفاءٍ مكسورةٍ (وَهْوَ اسْمُهُ) وزاد في «الجنائز» [خ¦1355] هذا محمَّدٌ (فَثَارَ ابْنُ صَيَّادٍ) بالمثلَّثة، أي: نهض من مضجعه مسرعًا (فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : لَوْ تَرَكَتْهُ) أمُّه ولم تعلمه بنا (بَيَّنَ) أي: أظهر لنا من حاله ما نطَّلع به على حقيقة حاله.
          (وَقَالَ سَالِمٌ) هو ابن عبد الله بن عمر بالإسناد‼ السَّابق: (قَالَ ابْنُ عُمَرَ) ☻ : (ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صلعم ) بَعْدُ (فِي النَّاسِ) خطيبًا (فَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: إِنِّي أُنْذِرُكُمُوهُ وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدْ(14) أَنْذَرَهُ(15) قَوْمَهُ، لَقَدْ أَنْذَرَهُ(16) نُوحٌ قَوْمَهُ) خصَّ نوحًا بالذِّكر؛ لأنَّه أبو البشر الثَّاني، أو لأنَّه(17) أوَّل مشرِّعٍ (وَلَكِنْ سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ: تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ، وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ).
          وقد ذكر في هذا الباب(18) ثلاث قصصٍ اقتصر منها في «الشَّهادات» [خ¦2638] على الثَّانية، وفي «الفتن» [خ¦7123] على الثالثة، وقد اختُلِف في أمر ابن صيَّادٍ اختلافًا كثيرًا يأتي إن شاء الله تعالى في «كتاب الاعتصام» [خ¦7355] بعون الله ومَنِّه.


[1] زيد في (د) و(م): «أن».
[2] في (د) و(م): «فقال».
[3] في اليونينية عزى ذلك لرواية «الحمويي» بدل: «الكشميهني».
[4] في (م): «ورسوله».
[5] «ثمَّ»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[6] في (ب) و(س): «يتجاوزون»، وفي (م): «تتجاوز».
[7] في غير (ب) و(س): «فيه».
[8] في (د) و(م): «عروة».
[9] في (م): «يكن هو».
[10] «المثنَّاة»: ليس في (د).
[11] في (م): «يستمع».
[12] زيد في (د) و(م): «ابن صيَّاد».
[13] في (ب) و(س): «أو».
[14] في (م): «وقد».
[15] في (ب) و(د1) و(م): «أنذر».
[16] في (د) و(م): «أنذر».
[17] في غير (د): «أنَّه».
[18] في غير (د) وهامش (م): «الحديث» وليس بصحيحٍ.