إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إن هؤلاء نزلوا على حكمك

          3043- وبه قال: (حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ) الواشحيُّ قال: (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) بن الحجَّاج (عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) بن عبد الرَّحمن بن عوفٍ القرشيِّ المدنيِّ (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ) بضمِّ الهمزة وفتح الميمين، بينهما ألفٌ سعدٌ (هُوَ ابْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ) بضمِّ الحاء المهملة وفتح النُّون مصغَّرًا، الأنصاريُّ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سنانٍ (الخُدْرِيِّ) الأنصاريِّ ( ☺ )‼ أنَّه (قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ) القبيلة المشهورة من اليهود من قلعتهم (عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ) هو ابن معاذٍ، وكان ╕ فيما ذكره ابن إسحاق: قد حاصرهم خمسًا وعشرين ليلةً، وقذف الله في قلوبهم الرُّعب، فأذعنوا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلعم ، فحكم فيهم سعد بن معاذٍ، وكان قد رُمِيَ في غزوة الخندق بسهمٍ قطع منه الأكحل، فلمَّا نزلتْ على حكمه (بَعَثَ(1) رَسُولُ اللهِ صلعم ) أي: في طلبه (وَكَانَ) سعد (قَرِيبًا مِنْهُ) لأنَّه ╕ قد جعله في خيمةِ رُفَيدة الأسلميَّة ليعوده من قريبٍ في مرضه الَّذي أصابه من تلك الرَّمية (فَجَاءَ) ومعه قومه من الأنصار (عَلَى حِمَارٍ) وقد وطَّؤوا له بوسادةٍ من أدمٍ، وأحاطوا به في طريقهم، يقولون له: أحسنْ في مواليك، فقال لهم: لقد آن لسعدٍ ألَّا تأخذه في الله لومة لائمٍ، وكان رجلًا جسيمًا (فَلَمَّا دَنَا) أي: قرب من رسول الله صلعم (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ) فقاموا إليه وأنزلوه (فَجَاءَ) سعدٌ (فَجَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم ، فَقَالَ لَهُ) ╕ : (إِنَّ هَؤُلَاءِ) اليهود من بني قريظة (نَزَلُوا عَلَى(2) حُكْمِكَ) فيهم (قَالَ) سعدٌ: (فَإِنِّي أَحْكُمُ) فيهم (أَنْ تُقْتَلَ) الطَّائفة (المُقَاتِلَةُ) منهم وهم الرِّجال (وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ) أي: النِّساء والصِّبيان (قَالَ) ╕ : (لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ المَلِكِ) بكسر اللَّام، أي: بحكم الله. ونقل القاضي عياضٌ: أنَّ بعضهم ضبطه في «البخاريِّ» بكسر اللَّام وفتحها، فإن صحَّ الفتح فالمراد به جبريل، يعني: بالحكم الَّذي جاء به الملَك عن الله، وعُورضَ: بأنَّه لم يُنقَل نزول ملكٍ في ذلك(3) بشيءٍ، ولو نزل بشيءٍ؛ اتُّبِعَ وتُرِكَ الاجتهاد، وبأنَّه: ورد في بعض ألفاظ الصَّحيح: ”قضيت بحكم الله“ [خ¦4121]. نعم، ورد في غير «البخاريِّ» ممَّا ذكره بعضهم: أنَّه قال في حكم سعدٍ بذلك: «طرقني الملَك سَحَرًا».
          قال ابن المُنَيِّر: ويُستفاد من هذا الحديث لزوم حكم المحكَّم برضا الخصمين، سواءٌ كان في أمور الحرب أو غيرها، وهو ردٌّ على الخوارج الَّذين أنكروا التَّحكيم على عليٍّ ☺ ، وفيه أيضًا تصحيح القول: بأنَّ المصيب واحدٌ، وأنَّ المجتهد ربَّما أخطأ ولا حرج عليه، ولهذا قال ╕ : «لقد حكمت بحكم الملك»، فدلَّ ذلك على أنَّ حكم الله في الواقعة / متقرِّرٌ، فمن أصابه(4) فقد أصاب الحقَّ، ولولا ذلك لم يكن لسعدٍ مزيَّةٌ في الصَّواب، لا يقال: كانت المسألة قطعيَّةً، والمسائل القطعيَّة‼ لله فيها حكمٌ واحدٌ، لأنَّا نقول: بل كانت اجتهاديَّةً ظَنِّيَّةً، ولهذا كان رأي الأنصار أن يُعفى عن اليهود خلافًا لسعدٍ، وما كان الأنصار ليتَّفق أكثرهم على خلاف الصَّواب قطعًا، وفيه: جواز الاجتهاد في زمنه ╕ وبحضرته، فكيف بعد وفاته؟! وفيه: أنَّه يُسوَّغ للإمام الأعظم إذا كانت له حكومةٌ في نفسه أن يولِّي نائبًا يحكم بينه وبين خصمه للضَّرورة، وينفذ ذلك على خصمه إذا كان عدلًا، ولا يقدح فيه أنَّه حكم له وهو نائبه، نقله في «المصابيح».
          وهذا الحديث أخرجه أيضًا في «فضائل سعدٍ» [خ¦3804] و«الاستئذان» [خ¦6262] و«المغازي» [خ¦4121]، ومسلمٌ في «المغازي»، وأبو داود في «الأدب»، والنَّسائيُّ في «المناقب» و«السِّيَر» و«الفضائل».


[1] زيد في (د): «إليه».
[2] في (م): «في».
[3] زيد في (د): «الوقت».
[4] في (د): «أصاب».